strong>منى الحلاّق غيبة عن المدينة والذاكرة والحربهناك عند الخط الفاصل بين مدينتين وأزمنة متصادمة، ما زالت العمارة شاهدة على حكايات الحرب والسلم، في انتظار إعادة افتتاحها متحفاً لذاكرة بيروت. المعماريّة التي ناضلت لإنقاذ «بناية بركات» على السوديكو من المعاول والجرافات، تستعيدها عبر معرض تجهيزي افتتحه وزير الثقافة في «اليوم الوطني للتراث»

جاد نصر الله
«كيف اتّفقت عبقرية مهندس وعين قنّاص على مبنى بركات؟» تسأل منى الحلاق غيبة. المهندسة المعماريّة تشارك حالياً في معرض «المؤسسة الوطنية للتراث» الذي تقيمه في مناسبة «اليوم الوطني للتراث» (21 أيار/ مايو) في «قصر الأونيسكو». وهذا العام، يحمل المعرض عنوان «يوسف أفندي أفتيموس 1866ــ 1952، عمارة فوق الزمان»، تحيةً توجّهها منى إلى المعماري اللبناني الذي صمّم «البيت الأصفر» أو بناية بركات الكائنة في حي السوديكو، عند خطوط التماس سابقاً، بمفردات الحرب الأهليّة التي مزّقت بيروت... ذات يوم ليس بالبعيد! منى الحلاق التي ناضلت طويلاً لإنقاذ العمارة الرمزيّة من المعاول والجرافات، حين كانت شهوة الهدم قد استبدت ببيروت المستسلمة لخطاب «إعادة الإعمار»، تستعيد عرضها التجهيزي الذي قدّمته للمرّة الأولى عام 2001 (راجع المقالة أدناه). العرض مستوحى من بقايا تركها قاطنو مبنى بركات، إضافةً إلى شريط وثائقي عن أفتيموس.
يعود تاريخ «البيت الأصفر» إلى العشرينيات، موثقاً لمرحلة انتقالية في تاريخ لبنان الحديث وللتحوّلات التي طرأت على بيروت. إذ شهد على صخب الحياة الاجتماعية في الثلاثينيات والأربعينيات، وصولاً إلى الحرب الأهلية في السبعينيات بفعل وجوده على تقاطع خطوط التماس الوهمية. حينها، كان كل مَن يدخله من قناصي الأحزاب، يمسك بزمام الأمور، بفعل تمركزه على تقاطع ثلاثة شوارع عند طريق الشام وجادّة الاستقلال.
وفي التسعينيات، حين أدّى زمن المضاربات العقاريّة إلى زوال نصف بيروت مع تهاوي عمارتها التراثية والكولونيالية، بقي المبنى الشهير منتصباً بعد معركة بدأتها منى الحلّاق عام 1997 بمقالة في الصحافة اللبنانيّة. قبل 12 عاماً، مرّت الناشطة في جمعيّة APSAD المعنيّة بالحفاظ على الأبنية التراثيّة، على تقاطع السوديكو. رأت عمّالاً يفكّكون الأحجار الفرنية لواجهات المبنى ويفرغون محتوياته، فسارعت إلى تصوير ما يحصل وبدأت حرباً علنيّة مع آل بركات وبلدية بيروت. وبعد سجالات قضائية وإعلامية بين مالكي المبنى وجهات متعددة، صدر المرسوم 10362 (عام 2003) الذي أجاز إنشاء تحويل المبنى إلى «متحف لذاكرة مدينة بيروت». وفي 2006، وقّعت بلديّتا بيروت وباريس اتفاق تعاون شمل ترميم «البيت الأصفر». وقد ألّفت بلديّة باريس لجنة من معماريين لمساعدة بلدية بيروت على وضع برنامج للمتحف، واختيار معمار لبناني لإعادة التأهيليوثّق مبنى بركات عمرانياً لبدء التحوّل من عمارة الحجر إلى استعمال الإسمنت المسلّح مادّةً أساسيّة في هياكل البناء. حينها، انتقلت العمارة من منازل القرميد إلى ما يسمّى walk-up apartment، أي الأبنية التي يزيد ارتفاعها على طبقتين، ويجري الانتقال العمودي فيها عبر أدراج داخلية. تعبّر الهويّة المعماريّة عن انتماء المبنى إلى بورجوازية القرن الماضي: سلالم إضافية خاصة للوصول مباشرةً إلى حيّز الخدمات، غرف مستقلة في مستوياته العليا مخصّصة للغسيل، وعلى الأسطح، كان السكّان يتمدّدون تحت أشعة الشمس.
أما يوسف أفندي أفتيموس، أحد أهم المعماريين اللبنانيين في بداية القرن العشرين، فترك بصماته على أرجاء العاصمة، في مبنى بلدية بيروت ونافورة الحميدية ومطرانية الروم الكاثوليك وأقسام من مستشفى «أوتيل ديو»... يوم بدأ أفتيموس بخطّ أول التصاميم لمبنى بركات، أراد الإفادة من موقعه المميز على تقاطع ثلاثة شوارع. احترم الزاوية، ورسم كتلتين من ثلاث طبقات تواجهتا حتى ولد الفراغ بينهما. ساوى في تصنيفه لوظائف الشقق، معطياً لكل غرفة حقّها من الفسحات المطلة على المنظر العام وأشعة الشمس، حتى في الغرف الواقعة في الشمال (المسألة شبه مستحيلة هندسياً). وحين شرع بأعمال البناء، استقدم الحجر الفرني من دير القمر، وشيّد به الطبقة الأرضية المخصصة للمحالّ التجارية.
لكن ضائقة ماديّة مرّ بها المالكون، أدّت إلى إيقاف أفتيموس للبناء، ليكمل المهندس فؤاد قزح ما بدأه أستاذه، مستوحياً عمله من الرسوم الأولى. طلا قزح الإسمنت باللون الأصفر الشائع حينها، وارتفع بباقي طبقات المبنى، وربط بينها بجسور معلّقة في الهواء ظللتها الأعمدة. ابتدع الإيهام البصري، فكان أكبر محور للرؤية عمودياً وأفقياً.
بعد الاعتراف الرسمي بأهميّة المبنى، لا ترى منى الحلاّق نفسها منتصرة، بل ترى أنّها ما زالت في منتصف الطريق. المعمارية لن يهدأ لها بال قبل افتتاح متحف ذاكرة بيروت رسمياً ليصبح في متناول زوّاره. يبقى السؤال: «علامَ نحافظ؟ كيف نرمّم؟ هل نقدم نسخة مصغرة عن المتحف الوطني اللبناني؟ أم نبقي ما راكمه تاريخنا الحديث، آخذين شهادة المنزل على التطور المديني للعاصمة، وذاكرة حروبها؟ رصاص المتقاتلين الذي اعتمل في الجدران فيه شاعرية وجمالية كبيرتين. ومنى تُصرّ على تركه كما هو ليُخبر عن حقبة وواقع أليم من حياتنا... لم يصبح تاريخاً بعد.


حتّى 30 الحالي ــــ «قصر الأونيسكو» ــــ للاستعلام: 01/786680