قيل الكثير عن تجربته في التقاط صور خلابة لسطح الأرض: اتهم بالنزعة السياحية، وبخلوّ كليشيهاته العملاقة من الفن. لكنّ أعماله تحتفظ بلمسة مدهشة، وتعيد الاعتبار إلى البعد الوثائقي للتصوير
خليل صويلح
قبل تسعة أشهر، حطّ يان آرتوس بيرتران في سوريا لاستكمال مشروعه «الأرض من السماء». هكذا حلّق المصوّر الفرنسي المعروف في سماء سوريا، حيث التقط 16 صورة فوتوغرافية لأماكن ومواقع أثرية تختزل التنوّع الجغرافي والتاريخي لأقدم عاصمة مأهولة في العالم. حصيلة الرحلة وغيرها نجدها في معرضه المقام في «حديقة تشرين». لا يكفي وصف أعمال بيرتران بالمدهشة، ذلك أنّه يضعنا في مهب بلاغة أخرى عن جمال هذا الكوكب من السماء. حتى إنّنا سنقف ملياً أمام أماكن عبرناها دونما اهتمام، لكنّها هنا تأخذنا إلى مقامٍ بصريٍ آخر. صدمة الجمال تتكشف عن صدمة مضادة تتعلق بالدمار المنهجي لكوكب الأرض. هذا المصوّر لا يعبأ بتكوين صورة جميلة، بل يضعنا وجهاً لوجه أمام أسئلة مقلقة عن مصير الكوكب والانهيار البيئي لطبقاته تحت وطأة معاول البشر. لعبة الضوء والظلّ في أعماله تكمن في التشكيلات البصرية المدهشة التي يكوّنها بمهارة. وإذا بالأرض المهملة والمستباحة تتحوّل تحت مرمى العدسة إلى لوحة تجريدية من صنع الطبيعة وحدها. لا يلتقط بيرتران صوراً للذكرى إلا من موقع مقاومة النسيان لما يحدث من إخلال بالتوازن الطبيعي. هناك بعد بيئي إذاً للصورة، في مسح جيولوجي طال 100بلد في العالم، خلال أربعة آلاف ساعة طيران، وما يزيد على مئة ألف صورة. كما لو أنه يدقُّ ناقوس الخطر في صرخة استغاثة طويلة لنجدة هذا الكوكب الذي تطيحه مخلّفات المصانع والمناجم والاستنزاف المستمر للطبيعة وأشكال الحياة البشرية المتنوعة. العدسة المفتوحة على اتساعها تشتبك مع أشكال القبح الأرضي، لكنها ـــــ بزاوية التقاط فريدة ـــــ تحيل هذه الأشكال إلى منظر ساحر من فوق. وإلا، من أين تنبع كل هذه الدهشة لمنظر ملتقط من السماء لبقايا منجم للمعادن، أو مشغل للدباغة أو حتى سوق للأسماك؟
هكذا كرّس بيرتران حياته منذ 20 عاماً للدفاع عن جمال الأرض وحماية الكوكب مما يلوّثه ويسيء إلى روعته. بدأت رحلة بيرتران (1946) مع التصوير من الجو، حين كان على متن منطاد برفقة زوجته خلال قيامهما بتحقيق صحافي عن الأسود في كينيا. كان ذلك عام 1991، فاكتشف جمال الكوكب، وقرر أن يجسّد جماليات الطبيعة بمختلف تناقضاتها من الجو. لم تكن الأمور تسير على ما يرام دائماً. مرةً كان يطوف بمروحية فوق أرجاء أفريقيا، فأصيبت طائرته بعطل في قرية صغيرة في مالي. هناك تعرّف عن كثب إلى حياة مجهولة لبشر منسيين، وحكايات أقرب إلى الأساطير. هذه التجربة ألهمته تصوير أطياف الحياة هناك وتسجيل حكايات هؤلاء البشر بوصفها تنويعات أخرى لحياة لا نعرف شيئاً عن تفاصيلها وخصوصيتها المحلية.
بعيداً عن اهتماماته المباشرة بالوعي البيئي، تكاد أعمال بيرتران تختزل المسافة بين البعد الفوتوغرافي للصورة كوثيقة، والمقترح الجمالي للعمل التركيبي، ذلك أنّ ما يبرز على السطح من ألوان وأشكال ينطوي على بعدٍ كورنولوجي يشبه طبقات الأرض نفسها. فالبؤرة المركزية التي تستقطبها العدسة ليست أكثر من ذريعة أوّلية لمحو المشهد الأصلي واستبداله بعناصر أخرى هي ما يمنح اللقطة سطوتها التعبيرية وإحالاتها البلاغية وأسبابها الجمالية... إلى درجة ننسى فيها العناصر الأساسية للصورة بوصفها واقعاً ملموساً. صورة ملتقطة لأحياء عشوائية مثلاً تحيل إلى تجريد بصري مذهل، وكذلك الأمر بخصوص كثبان صحراوية، أو بالات قطن.
وسط هذه المناظر البانورامية للكوكب، بالكاد نلمح كائناً بشرياً، أو أنّه يصير مجرد نقطة صغيرة في المشهد العام. لعلها رسالة في الإنصات إلى أمّنا الطبيعة والتعلّم من حكمتها بإثارة العين والعقل معاً. في النهاية، أعمال بيرتران شهادة حيّة عن حال الأرض وجمالها المنهوب تدريجاً، واحتجاج صارخ على العبث بكنوزها، ودعوة للالتصاق بترابها، حتى لو كنّا على ارتفاع ثلاثة آلاف متر.
حتى 29 تموز (يوليو) المقبل ـــــ «حديقة تشرين»، وسط دمشق