الكلمة صارت جسداً في «غاليري جانين ربيز» نوال العلي
تُخضع العين مشاهداتها للمقارنة: الأعمال المعروضة في «غاليري جانين ربيز» لثمانية فنانين إيرانيين معاصرين ضمن معرض «كتابة فنّ»، لا تماثل ما عرض قبل شهرين في «غاليري ساتشي» اللندنيّة. وربما هذا هو القصد من وراء المعرض البيروتي الذي يعيد الاعتبار إلى فنّ الخط الفارسي في اللوحة الإيرانية المعاصرة، بعدما ساد استخدام الحروف الفارسية للترويج للوحات تتمتع بالحدّ الأدنى من الجودة الفنية، والحدّ الأعلى من الرواج التجاري، ولا سيما أن المقتنين الغربيين قد اجتاحوا سوق التشكيل الإيراني، وجذبهم كل ما ينطوي على لمسة شرقية، من دون إعمال النظر في سويته الفنيةلقد أُريد للأعمال المعروضة في «غاليري جانين ربيز» أن تسرد خطاً بصرياً رفيعاً في التشكيل الإيراني، بدأ منذ الخمسينيات مع ما عرف بفناني «السقاخانه». بخلاف ما حدث في العالم العربي، شهدت الحركة التشكيلية الإيرانية صراعاً قوياً مع المدارس الغربية الحديثة. وكانت اللوحة وتقنياتها ساحة معركة، استخدم فيها كل طرف أدواته التي كان أبرزها الخط والحروفيات الفارسيّة. هكذا نشأت مدرسة «السقاخانه» التي أسسها فنانون من أمثال برويز تناولي، صادق تبريزي اللذين تعرض أعمال لهما في «كتابة فن»، إلى جانب فنانين أكثر شباباً هم شهريار أحمدي، آزاده رزاق دوست، هورا يعقوبي، باربد كلشيري، رضا عابديني، شيده تامي. أعمال هؤلاء الفنانين تقترح شكلاً جمالياً حديثاً للحرف الفارسي يرتكز على قيمة شكل الحرف نفسه، كعمل تشكيلي مثلما فعل المؤسسون، ولكن هذه المرة بإدخاله في قوالب فنيّة ومدارس غربية أيضاً كالفن المفاهيمي، وتصميم الملصقات والتصوير.
برويز تناولي (1937) أحد المولعين بتصميم كلمة «الهيتش»، يعرض له عملان نحتيان صقيلان باللونين البرتقالي والأخضر. وكلمة «هيتش» تشبه في تكوينها شكل الجسد. وقد صمما في آن على شكل ثعبانين طبق الأصل عن بعضهما. أمّا عمل صادق تبريزي (1938) ففيه شيء من التصور النمطي عن الخط في اللوحة، غير أن هذا لا ينتقص من جماليّة العمل المنجز بالحبر على الورق. لكن ما يميز عمله هو استعماله الكتابة بشكل (نص تعليق) التي يميل فيها إلى ملء فراغات اللوحة بالحروف بصورة تقترب من الكتابة على المخطوطات القديمة.
أما ملصقات رضا عابديني (1967) الستة (حلم الغبار، وAllOne وغيرها)، فدمجت بين حضور صورة الجسد والاستناد إلى قوة تعبير الحرف الفارسي الذي يرافق الحرف اللاتيني في العمل. ونجده أحياناً يشكّل جسداً كاملاً من حروف متراصة. تميزت ألوانه ببهتانها، إذ تترك أعماله أثراً وانطباعاً هادئاً لدى متلقّيها. أما الشاعرة والفنانة شيده تامي (1962)، فكتبت حياتها في ما يعرف بـArt Book الذي يتكون من رسوم لوجهها على القماش بالإكريليك، مقرونة بعدد من قصائدها، متدرجة من سن الشباب رجوعاً إلى الطفولة. ثمة مطويات ولفائف من الجلد، كل ذلك موضوع في صندوق خشبي يستوقف متلقيه العلاقة التراجيدية الواضحة بين الفنّ والحياة الشخصية للفنانة.
لوحات شهريار أحمدي (1979) المشتغل بتصاميم الكتب تظهر علاقته بالكتاب، ولا سيما أنّه ممن عمل في البحث في مضامين الأدب القديم وتاريخ إيران. هناك قصائد وحكايات متداخلة مع كتل لونية دافئة على أرضية شبه بيضاء. بعض أعماله تشبه مسلّة تشكيلية حديثة.
باربد كلشيري (1982) من الذين عادوا إلى أهمية ما يحمله الكلام من مضمون، مبتعدين عن الاستخدام المجرد لجمالية الكتابة. هو فنان متعدد المواهب، يقدم هنا عملاً ينتمي إلى الفنّ المفاهيمي بعنوان «صورة الفنان».
بودلير أيضاً كان حاضراً في المعرض من خلال آزاده رزاق دوست (1979) التي تعرض ثلاثة أعمال بالأحمر والأبيض تستخدم فيها قصائد الشاعر الفرنسي، وتسمِّي لوحاتها باسم مجموعته الشعرية «أزهار الشر». ونجد أشعار لويليام بليك أيضاً، فنلمح عبارة «آه يا وردة أنتِ مريضة».
أما عمل هورا يعقوبي (1979) المكوّن من 22 صورة فوتوغرافية معنونة «من هو جيلي»، فضمّت عدداً من النساء بالتشادور الأسود وقد صمّمت بنفسها دمية متحرّرة من الزيّ الشرعي الأسود تجسّد امرأة صفوية تحمل راية عليها عبارات بالخط الفارسي. والتقطت لها صورة عازفة مرة وراقصة مرة وعاشقة في مشهد آخر بين أولئك النسوة المجلّلات بالأسود دائماً.
اللافت هو غياب أعمال التجهيز والفيديو، وخصوصاً أنّ المعرض حمل شعار «اتجاهات في الفن الإيراني المعاصر منذ السقاخانه». لكن منظّمي المعرض يبررون ذلك بغياب المساحة لعرض هذه الأعمال. إلا أنّ أهمية المعرض تكمن في رؤية جواب الفن الإيراني الذي يستخدم الخط، على الولع الغربي ـــــ المبتذل أحياناً ـــــ بكل ما هو شرقي بوصفه إيكزوتيكيّاً. حتى إنّ الفنانين يقدمون صورة حقيقية عن مجتمع هم أبناؤه، رغبةً بإنتاج فن هو ابن هذا المجتمع أصلاً، وليس ساعياً إلى لفت المقتنين الشغوفين بكل ما هو غرائبي ومحجب وانتقادي وشرقي!


حتى 18 حزيران (يونيو) المقبل ـــــ «غاليري جانين ربيز» (بيروت) ــــ 01/868290