الديموقراطية هي الطريق إلى الوحدة العربية، والقومية فكرة حديثة، والمقاومة ضد الاحتلال ازدادت في وجدان الشعوب منذ تحرير الجنوب اللبناني عام 2000. المفكّر الفلسطيني يقدّم في كتابه الجديد «أن تكون عربياً في أيامنا» مساهمةً في تجديد الفكر العربي
بيسان طي
في ظلّ الأزمات السياسية والثقافية والاجتماعية التي يواجهها العرب، وفي ظل السؤال عن أزمة الهويّة، وضمن تحالفات تختارها أنظمة عربية على حساب المقاومة ضد المحتل... يصير ضرورياً البحث في معنى «أن تكون عربياً في أيامنا»، وهو عنوان الكتاب الجديد للمفكر عزمي بشارة (مركز دراسات الوحدة العربية). يضم العمل دراسات ومحاضرات قدّمها بشارة منذ منتصف 2007 جرى تقسيمها إلى ثلاثة أقسام: «قضايا عربية»، و«المتغيّرات الأميركية في نهاية مرحلة بوش»، و«فلسطين والقضية الفلسطينية».
يشدّد الكاتب على أنّ عملية تجديد الفكر يقوم بها أفراد، وترتكز على التقاطع بين مسار حاجات تنتجها العملية الاجتماعية التاريخية، ومسار تاريخ الأفكار. يقدم بشارة تفسيرات معمّقة للفكر الذي يدافع عنه، يقطع بأنّ الطريق إلى الوحدة العربية هي الديموقراطية، وبأن الفكرة القومية ليست تقليدية، بل هي فكرة حديثة، مؤكّداً على أن «القومية العربية حاجة عملية ماسّة وبراغماتية في الوصول، ليس فقط إلى مجتمع حديث قائم على الانتماء الفردي، بل أيضاً لتزويد المواطن بهوية ثقافية جامعة تحيّد غالبية الطوائف والعشائر... عن التحكّم في انتماء الفرد السياسي». وقد ذكّر بشارة بأن الوقائع لا تقدّم دليلاً على نجاحٍ ما في تثبيت الهوية القُطرية في الدول العربية كهوية قومية، لافتاً إلى أنّه «في مثل هذا الظرف الذي تتجلى فيه واقعية الطوائف والعشائر وتشظّي الدولة وعدم قدرتها على بناء أمة قطرية، لم يعد ممكناً التعاطي مع القومية العربية كرومانسية إلّا كسوء نية سياسي يعبّر عن موقف». ومن خلال كتاب بشارة، تبدو قراءة مشروع ثورة 23 يوليو أمراً ضرورياً، في إطار مهمة تجديد الفكر القومي العربي، وهو إذ قدّم قراءة نقدية بعيدة كل البعد عن الانبهار، يرى أنّ المطلوب فهم هذا المشروع فهماً نقدياً والبناء عليه «لا بد من طرح مشروع سياسي جديد منتمٍ عن وعي إلى هذا التاريخ».
المحاور الرئيسة التي لا بد من أن يطرحها أي تيار قومي عربي، تتعلق بمسألة الوحدة وما يجنيه المواطن من تحقيقها، المواطنة في المشروع القومي العربي، الإجابة المدنية والمواطنية عن القضية الطائفية، السياسات الاقتصادية والاجتماعية في الدولة، ونوع العلاقات التي يجب أن تربط مناطق الوطن العربي ووحداته الساسية.
بشارة كتب عن المقاومة وضرورة مناقشة التيارات التي تقوم بها، لافتاً إلى تجذّر فكرة المقاومة ضد إسرائيل والاحتلال الأميركي أكثر فأكثر في وجدان الشعب العربي منذ تحرير الجنوب اللبناني في أيار (مايو) 2000. النهوض العربي غير ممكن من دون إذكاء روح مقاومة المحتل الأجنبي، لكن بشارة شدّد على أنّ أي تيار مقاوم في بلد عربي لا يخضع لاحتلال أجنبي وظيفته هي فضح أنظمته المتحالفة مع الولايات المتحدة.
التفكير في تجديد الفكر العربي لا يمكن أن يقتصر على عناوين متداولة. هكذا، أغنى بشارة كتابه بقراءات جديدة، مشدّداً على ملفات لا تُولى أهمية كبيرة في النقاش الثقافي في أيامنا، ولفت إلى أنّ «التعامل مع اللغة العربية واستخداماتها تحوّل إلى إشكال اجتماعي بدأ يحيل فئات اجتماعية متباينة طبقيّاً على ثقافات متباينة»، معلناً «نحن نؤسس لأن تصبح خلافاتنا في المستقبل حرب ثقافات».
في القسم الثاني، قدّم بشارة قراءة لأحوال المنطقة، منطلقةً من قراءة للأوضاع العالمية بعد انتهاء حكم جورج بوش والمحافظين الجدد، مذكّراً بأنّ القيادات المحلية التي نمت كحليف لأميركا، تتبيّن ضرورة تغيير سياستها. من هذا المنطلق، يمكننا قراءة الكلام عن «المصالحة العربية»، فهي إعادة جدولة للخلافات العربية حتى تتّضح سياسات أوباما. بشارة اعتبر الرئيس الأميركي الجديد «ظاهرة صوتية» فقط، لكن الظاهرة الشعبية التي أدت إلى التغيير في أميركا هي الجديرة بالاهتمام.
مع فشل سياسات المحافظين الجدد، برز واقع دولي جديد ليس فيه معسكر بديل عن القوة الأحادية، بل إنه يفسح المجال أكثر للدولة الوطنية ولإرادة الشعوب، إلا أن تحالفات الأنظمة العربية مع أميركا واستسلامها لها، حالتا دون استغلال العرب الظرف الدولي هذا، فيما إيران وتركيا تحاولان التفاهم لملء الفراغ في المنطقة. «فلسطين هل من أفق» من أبرز فصول الكتاب، يلفت بشارة إلى رمزية إصرار العرب والفلسطينيين على الاحتفال بالذكرى الستين للنكبة، وتمسّكهم بحق العودة، وإلى أنّ الخلافات الفلسطينية ليست نتاج الصراع على السلطة، بل هي ثمرة أوسلو وعملية التسوية والانفصال المفهومي لحركة التحرر عن ذكرى النكبة. وذكّر بأن القضية الفلسطينية هي قضية عربية، وبأن المسألة العربية (غير المحلولة) هي جوهر القضية الفلسطينية.
الكتاب مساهمة يقدّمها المفكر الفلسطيني في إطار مسألة تجديد الفكر العربي، ورغم استحالة تلخيص ما جاء فيه، فإن العمل ــــ كما جاء في الخاتمة ــــ يربط مسألة النهوض بالهوية العربية الحداثية، ويربط مصير القومية العربية بمدى قدرتها على تقبّل مهمات المجتمع الحديث وتحدياته. كما يربط مهمّة تجديد الفكر العربي بمشروع بناء الأمة، وتحديد مطالب وبرامج في هذا الاتجاه تكون مفهومةً للناس، يمكنهم ربطها بمصالحهم.