عود وبيانو وكونترباص وجرّة للعزف على وتر الحنين

«حاجات واحشاني» (Incognito) عنوان أسطوانة ثانية للعازف والمؤلف المصري، بالاشتراك مع فرقة «مسار». تجربة تنطلق من وعي جمالي وسياسي يسعى إلى الحفاظ على خصوصيات الروح الشرقيّة بعيداً عن صرعات «موسيقى العالم»

بشير صفير
أسطوانته السابقة «العيش والملح» مع فرقة «مسار»، تعود إلى عام 2006، وآخر زيارة قام بها إلى لبنان مع فرقته الثانية «إسكندريلاّ» كانت قبل حوالى سنة... وها هو حازم شاهين (1978)، يطلّ مجدداً في عمل موسيقي بعنوان «حاجات واحشاني» (Incognito). هذه المرّة يتعاون عازف العود والمؤلف المصري مع فرقة «مسار»، لكن العمل يحمل اسمه لأن المقطوعات الموسيقيّة جاءت جميعها من تأليفه.
التوجّه الجمالي والسياسي ـــــ الاجتماعي للفنان الشاب يستحق وقفة خاصة، لقراءة ملامح مشروعه الموسيقي المتعدد الأوجه. إنّه يبحر عكس التيار الطاغي في العالم العربي، المسكون بهوس بالغرب، على كلّ الأصعدة وأبرزها الموسيقى. أما شاهين فاستوعب العولمة، وحافظ على ما تراثه، وتعرف على ما يُصدَّر إلينا وفرزه. هذا التوجّه يتأكّد في التجربتين اللتين يعرفه من خلالهما الجمهور.
التجربة الأولى كانت مع فرقة «إسكندريلاّ» (لم يصدر لها أي تسجيل حتّى الآن)، وهي تجربة غنائية، تقوم أساساً على استعادة روائع الشيخ إمام وسيّد درويش ووضعها مجدداً في تصرّف الجمهور عبر كسر أسوار العزلة أو التهميش التي يفرضها السائد. تلك التجربة تخلو من أي لجوء إلى الروائع بهدف اللعب على وتر الحنين. شاهين ورفاقه معنيّون مباشرة بالقضايا السياسية والجماليّة التي ورثوها عن هاتين المدرستين النضاليتين، علماً بأن للفرقة أغنيات خاصة وجميلة تؤكّد ذلك، مثل أغنية «الكلب كانيش».
أمّا التجربة الثانية مع فرقة «مسار»، فيعتبر ألبوم شاهين الجديد مكملاً لها، وهي تجربة موسيقية شرقية لا تتردّد في استعارة بعض الآلات والقواعد «الغربيّة». أسطوانة «حاجات واحشاني» التي نكتشفها اليوم، يواصل فيها قول ما بدأه مع فرقة «مسار»، على مستوى التأليف الموسيقي تحديداً... وإذا كان لصوت شاهين حضور ممتاز في الأغنية، وطاقة وصدق يسمحان له بإيصال المعنى، فهو يمتلك أيضاً قدرة (صوتية وفنيّة)، وإحساساً لخلق تنويعات لحنية في الأغنيات المعروفة.
يضم الألبوم أربع مقطوعات، واحدة بعنوان «حصان درويش» مبنية على أغنية «العربجيّة» لسيّد درويش، إضافةً إلى تقسيم في مقام الراست وارتجال في مقام النهاوند. ويشارك في الأداء هاني بدير (إيقاع)، ونوّار عباسي (بيانو)، ومايلز دجاي (كونترباص). أما «حاجات واحشاني»، المقطوعة التي أعطت اسمها للألبوم، فلا شك في أن اختيارها صائب، لأن عنوانها يعبر حقاً عن الجو العام للعمل المحمل بفائض من الحنين. كما يسجّل لـ«حاجات واحشاني»، عدم إعطاء الآلات الغربية دوراً يفسد الجو الشرقي، والاكتفاء بدعوتها عند الحاجة الماسة فقط.
يُستَهَل العمل بـ«حصان درويش»، فيمهّد البيانو بنقرة المقدمة للعود، حيث الزّنّ المتكرّر على الأوتار يعزّز النَفَس الحنينيّ الذي تخيّم عليه غيمة أسَف (مبرَّرة بالنظر إلى سيرة حياة الشيخ سيد درويش). هذا «التحضير» يأخذ منحىً تصعيديّاً يصل إلى الذروة، معلناً، عبر تسارع إيقاعي يشبه عَدْو الخيل، وصول «حصان درويش» إلى لحن أغنية «العربجية»، حيث ستلاقي الفرقة العود. بعد التحية إلى المعلّم نأتي إلى «تقاسيم راست»، أغرب ما فيها مطلعها غير المألوف في التقاسيم. تبحث عن جذورها فتجدها في عمل لم يكن مألوفاً هو الآخر في فئته وفي بيئته عند تأليفه: مطلع سوناتة البيانو الوحيدة لفرانز ليست (1811 ــــ 1886). هكذا يستهل حازم تقاسيمه بنوتة مكرَّرة بين مساحات من الصمت، ثم يغوص في تقاسيم كلاسيكية لكن شديدة العفوية.
في «مشكلة»، يتبع المؤلف المصري الشاب أسلوب السؤال والجواب بين البيانو والعود، قبل أن يستلم الأخير زمام الأمور. مقطوعة منتظمة الشكل في مجال الموسيقى الآلاتية، غنية بالجمل اللحنية المربوطة بجسور، تسير نحو المأساة حيث يثقِل وزرها الإيقاع الندبيّ، وضربات الكونترباص المسحوب بالقوس. وقُبَيل العودة إلى الموضوعة الرئيسية (ما يُعرَف بالـ«كودا»)، نسمع تقاسيم موقَّعة للعود، أتت بعض التغييرات المقامية فيها نافرة بالنسبة إلى جو المقطوعة والتنسيق العام لتوزيعها الموسيقي... هكذا تتوارى «مشكلة» شيئاً فشيئاً تاركة رعشة خوف.
في «ارتجال نهاوند»، استراحة سلام، دقة واختصار في اختيار الجمل وهدوء يرتقي إلى الصمت المعبِّّر، أو يلامسه عبر حد أدنى من الدينامية التي يلجأ إليها المؤدّي في حالتين: للوصول إلى ذروة التعبير عن إحساس ما، أو لعزف صدى النغمات.
أما مقطوعة «حاجات واحشاني»، فهي ثنائية لحازم وهاني الذي اتخذ من الجرّة آلة إيقاعية له. وخلافاً لما قد يوحي به عنوان هذه المقطوعة، فإن الحنين الذي تنطوي عليه لا يلامس حدود الأسى. إنها صور ذكريات جميلة، ولحظات قد لا تتكرّر، لكنّ في استعادتها من الذاكرة متعة وفرحاً.
ولعلّ عبارة مسك الختام، لا تصلح لمقطوعة «مراهقة»، وهي «لونغا» في مقام النهاوند. لكنّ الصوت المزدوج فيها، والجملتين المتناغمتين، تمثّل نقاط قوّة لناحية الجمال والمهارة... وقد تصبح من كلاسيكيات المقطوعات الشرقية ذات الأصول العثمانية والأندلسية. وفي كلّ الأحوال، ستبقى ذكرى جميلة من المراهقة.