«البيان السياسي» الذي كتبه إيتيان دو لا بويسي مطلع القرن السادس عشر، ولعب دوراً بعد قرنين في بلورة أفكار الثورة الفرنسيّة، يدخل أخيراً إلى المكتبة العربيّة (المنظمة العربية للترجمة). مطلع الألفيّة الثالثة، ما زال السؤال الذي طرحه المفكّر الفرنسي راهناً: لماذا يشقى الملايين من أجل حفنة من الأسياد؟
نوال العلي
نجح المفكّر الفرنسي إيتيان دو لا بويسي Etienne de la Boétie في الانتقال من زمانه والتأثير في زمان غيره، مرتين. الأولى حين انتقل كتابه «مقالة العبودية الطوعية» الذي وضع في القرن السادس عشر، من يدٍ إلى يدٍ ليؤثّر في إرهاصات المرحلة الثورية الفرنسية في القرن الثامن عشر. كانت هذه المقالة بمثابة بيان سياسي دعا فيه دو لا بوسي إلى التمرّد على الملكيّة. وها هو دو لا بويسي يحط في ربوع الضاد، فإذا به يخاطب زماننا أيضاً، إذ نقرأه مترجماًً عن «المنظمة العربية للترجمة» (عبود كاسوحة). وما أشبه اليوم بالبارحة! كأنّنا بدو لا بويسي وهو يتناول شعوباً خلت وتواريخ انقضت، يتحدث عن الألفية الثالثة. السؤال الذي يطرحه المفكّر الفرنسي ما زال بلا إجابة: لماذا يقوم «ملايين من البشر فيشقون ليخدموا رجلاً واحداً، وهم فخورون به ومسحورون، وهو حيالهم متوحش وبلا رحمة؟».
ينطلق دو لا بويسي في مقالته من قول أوليس: «لا أرى خيراً، في أن يكون للمرء أسياد عديدون، فليكن سيداً واحداً وليكن ملكاً واحداً». لكنّ دو لا بويسي يرى أنّ العبارة كان لا بد من أن تكتفي بشقّها الأوّل فقط. أن يكون للمرء أسياد عديدون، يعني أن نكون أشقياء بقدر عددهم. من هنا، يبدأ دو لا بوسي بتحليل عبودية الشعوب وتفسيرها، ويخوض في نوازع الطبيعة البشرية ودور الحكام الطغاة. يرى أنّ أنظمة الحكم الفرديّة تتضمن ما يناقض الحقل الدلالي السياسي في الأساس، بل إنّه يعتبرها «شذوذاً» لأن الفرد ينزع إلى الإصغاء لمصالحه، ما يتنافى مع مفهوم السياسة.
يقدّم الكتاب، إضافة إلى نص المقالة الأصلي في الفصل الثالث منه، تحليلاً للمقالة «من الحرف إلى الفكر»، بقلم سيمون غويار ــــ فابر. تناول التحليل حديث المقالة عن الشعوب في حالة العبودية، ثم محاولة دو لا بوسي وضع نظرية للطبيعة البشرية بدءاً من فرضيّة أن «لا وجود للعبودية إلا لأنها طوعيّة». وحتى الوصول إلى مناقشة أسباب العبودية، «من طبيعة الإنسان أن يكون حراً، وأن يكون عازماً على البقاء كذلك، لكنّه يتطبع بغير ذلك حين تقدمه له التربية، فلنقل إذاً إن كل الأشياء تصبح طبيعية حين يتعوّدها». ويشبّه دو لا بويسي هذا الانحراف في الطبيعة البشرية كأنّه فقدان لذاكرة الكيان الأول والحرّ، فيسقط الإنسان في «نسيان للحرية عميق جداً ويغدو مستحيلاً عليه أن يستيقظ ليعود فينالها».
ويحيلنا دو لا بويسي من حيث لا يدري إلى قراءة واقع أنظمتنا المعاصرة في كتابه المستقبليّ الطابع أيضاً. ألم يقل المفكّر فيللي إنّ «القرن السادس عشر يفتتح العصر الحديث». لنر كيف يتحدث دو لا بويسي عن قتل الطاغية، وهو في هذا الشأن يعارض الفكر اليوناني القائل: «ليس قتل الطاغية بجريمة قتل» بل إنّه يؤكد دائماً: «لا أريد منكم الإقدام على دفعه أو زحزحته، بل الكفّ عن دعمه فقط».
يسوق أمثلة تاريخية عن الأشكال المتحضرة للاستبداد. فإذا كانت روما القديمة قد تعسفت في الإعدامات وسفك الدماء، فقد كانت تلك الوسائل تلائم ذلك الزمان، لكن ليس بالضرورة أن يكون الإنسان مهدداً بالقتل ليقال إنّه يعيش في نظام طاغية. هناك مجتمعات تحترم حقوق كل فرد إلى حد ما، ورغم ذلك فهي «رازحة في العبودية بفعل الخرق الواضح لحق الجميع». بوسع المرء أن يعيش آمناً في إنكلترا ويمارس حقوقه كلّها، لكنّ الظروف تتضافر، بحسب دو لا بوسي، لحرمان الإنكليز من حقّهم الوطنيّ في ما يتعلق بأمور كبرى تخصّ السياسة الداخليّة والخارجيّة يُنتزع القرار فيها من البرلمان.
من جهة أخرى، شقّت العلمانية أيضاً طريقها إلى فكر دو لا بويسي. ها هو يشدد على أنّ حياة الدولة لا تنتظم وفقاً لمعايير إلهية، بل وفقاً لعقد مدني بين الحاكم والرعيّة.
هكذا، يسترسل هذا البيان الجمهوريّ في الحديث عن آثار العبودية الطوعيّة، معبّراً عن مفاهيم الأخلاق السياسيّة ومضامينها التي رأى مفكرون أنّها مفرطة في سذاجة أفكارها أو ما اعتبروه «الوهم السامي الصادر عن قلب شهم».
وإذ يتضمّن الكتاب قراءة تاريخيّة في حياة من وُصف بأنّه الأديب الإنساني النهضوي المتكامل (1530ــــ 1562)، ينكشف لنا أنّ حياة دو لا بويسي القصيرة ألقت بمهمّة جمع أعماله التحليلية وأشعاره أيضاً على عاتق صديق حياته مونتانييه الذي حرص على نشرها والحديث عنها في فصل مخصص للصداقة من كتابه «الأبحاث». تظلّ هذه المقالة، التي كتبها وهو لم يتجاوز الثامنة عشرة، أهم ما أنتج، وقد تولّى تصحيحها بعد أعوام، وقد عوملت كما يقول مونتانييه، بطريقة من البتر بوصفها موضوعاً مبتذلاً ومطروقاً في ألف موضع في الكتب.
ولكن ما الجديد فعلاً في حديث دو لا بويسي عن الطغيان والطاغية؟ بحسب الكتاب، فإن كتّاباً كثراً أسهبوا في تحليل الديكتاتوريات، لكن ما يميّز عمل هذا «المفكّر الغاضب»، أنّه «لا يصف الطغيان بأنّه اغتصاب السلطة، وبالتالي بعدم قانونية الحكم، ولا بتحدّي الشرعي، فالطغيان أساساً وفي أعمق أعماقه هو المونوقراطية: سلطة فرد واحد». حتى أنّ المقالة كان يطلق عليها مقالة «ضدّ الواحد». من هنا أيضاً، فهذا العمل لا يناقش مسألة أصل الحكم، بل يتأمل في ممارسات هذا النوع من الأنظمة.