الصحافي الغزير الذي عاصر إحدى الحقب الحساسة في مصر، وعاشها من الداخل مرسالاً سرّياً للسادات في المفاوضات مع إسرائيل، يتحدّث على سجيّته إلى إبراهيم عبد العزيز، رادماً بعض الهوّة الشاهقة بين «المعلن» و«المسكوت عنه» في تاريخنا المعاصر
محمد شعير
أنيس منصور واحد من أصحاب الأساليب الصحافية المميزة في العالم العربي. «أسلوب شفّاف ملتصق بالجسم مثل المايوه» بحسب تعبيره. رشاقة العبارة وذكاؤها، إضافةً إلى موسوعية الثقافة هي أبرز ما يميّزه. قدرته على الكتابة في كل شيء، من السياسة حتى الطبخ، ومن الأديان حتى «تحضير الأرواح»، جعلت منه أحد أكثر الكتّاب «توزيعاً» وتأثيراً في الشباب.
قدرته على الحكي وإطلاق النكات، قرّبته كثيراً من أنور السادات الذي لم يكن يطيق الثقافة ولا المثقفين ـــ كان يصفهم بالـ«أفندية الرزال» ــ ولا التقارير ولا الكتب، لأنّه كان يظن أن القراءة هي التي قتلت الرئيس عبد الناصر!
نحن أمام شخصية ثرية بالفعل، تختزن الكثير من الأسرار، أقرب إلى مصنع كبير للكتابة. يكتب يومياً نحو عشرة أعمدة صحافية في جرائد مختلفة، وأصدر حتى الآن 200 كتاب على مدى سنوات عمره (ولد عام 1924)، أي بمعدل ثلاث كتب ونصف كتاب في العام.
لكل هذه الأسباب، يبتعد الصحافيون عن إجراء الحوارات معه. هو «ابن كار» مثلهم، ولن يقدم جديداً في حواراته لأنّ الجديد يستأثر به لنفسه.
لكن في لحظة صدق ربما، جلس أنيس منصور مع الصحافي إبراهيم عبد العزيز ليجيب عن أسئلته، ويحكي أسرار علاقاته بالرؤساء والفنانين والمثقفين والصحافيين، كما أطلعه على أرشيفه الشخصي والرسائل التي تلقّاها من شخصيات شهيرة، لنجد أنفسنا أمام كتاب نادر في الثقافة العربية في «أدب الرسائل والاعترافات» أو «فنّ البوح».
في «رسائل أنيس منصور» (دار نفرو)، نجد أنفسنا أمام الصحافي «من دون ماكياج» يتكلم على سجيّته. هكذا، نستمع إلى ما يقوله أنيس منصور عن صديقه السادات، وهو ما لم يكتبه قبلاً. السادات هو الوحيد من مجموعة «الضباط الأحرار» الذي احتفظ بموقعه من عبد الناصر. لم يختلف معه، ظلَّ قريباً منه، بينما تغيّبَ الآخرون، نفياً أو انتحاراً أو سجناً أو موتاً ربانياً. يفسّر منصور ذلك بأن «المسمار الذي له رأس هو الذي يمكن خلعه... أمّا الذي لا رأس له، فهو الذي يظل غائراً يصعب خلعه». السادات قرر أن يعيش بلا رأس فعاش طويلاً، وخصوصاً أنه أقنع عبد الناصر بـ«خبث الفلاحين» بأنّه «إنسان مريض، لن يعيش طويلاً وأوصى عبد الناصر بأولاده من بعده». هذا «الخبث» يسمّيه أنيس «سياسة». الرئيس عاش عمره كله «لا يثق بأحد». ربما لهذا، لم يثق السادات حتى بوزراء خارجيته خلال محادثات «كامب ديفيد»، (احتفلت إسرائيل أخيراً بمرور 30 عاماً على توقيع اتفاقية السلام مع مصر). وكان يكلّف أنيس منصور وحده رسائل السلام إلى قادة إسرائيل. هذه حكاية تكشف نظرة الرئيس إلى المحيطين به، وكيف كانت تُصنع سياسة مصر الخارجية.
المدهش هنا أنّ منصور يعترف بأن إسرائيل كانت «ألدّ أعدائه». كان مسؤولاً أيام عبد الناصر عن تحرير سلسلة شهيرة بعنوان «اعرف عدوك»، ويحكي أنّه عندما زار حديقة الدومين في أستراليا، خلال رحلته الشهيرة حول العالم، وضع أوراقه فوق منضدة في الحديقة وبدأ يكتب. أثناء ذلك، سمع كلمات تصف خطباء الحديقة تتساقط على مسامعه: يوغوسلافي، تركي، مجري... ولما سمع كلمة «إسرائيلي»، انزعج كثيراً وأفلتت منه صرخة. مرّت الأيام وصار أنيس منصور من أهم مفاوضي إسرائيل في مباحثات السلام، وحامل الرسائل السرية إلى قادتها. والغريب أيضاً أن أنيس يعترف في الكتاب أنّ التاريخ تضمّن مفاجأتين: وعد بلفور، ومعاهدة السادات. الأول «انتقل بإسرائيل من مجرد الحلم إلى الواقع، وأقام لها شعباً وأرضاً وجيشاً. أما مبادرة السادات، فقد منحت إسرائيل الحياة». هل كان ذلك اعترافاً «متأخراً»، أم أنّها الحقيقة التي ظلّ أنيس يداريها وأفلتت من لاوعيه بصورة لاإراديّة؟
في الكتاب أسرار أخرى كثيرة: سنعرف أن حافظ الأسد قرّر اعتقال السادات عندما زاره في دمشق ليعرض عليه تفاصيل مبادرة السلام، لكنه تراجع في اللحظات الأخيرة. رأى السادات في شعبه «شعوباً بالروح بالدم» لا لزوم لها، مقارنةً بالشعوب الغربية التي تحكم هي لا الحكومات. كما نقرأ رسالة من قادة عسكريين إلى الرئيس المصري بعد معاهدة السلام: «كيف تدافع عن سيناء وليس بها سوى فرقة واحدة؟». كما نطّلع على وثائق ورسائل أخرى عن عباس العقاد، ونجيب محفوظ وعبد الرحمن بدوي وتوفيق الحكيم ومحمد عبد الوهاب، ويوسف وهبي، ورسائل أخرى دالّة وكاشفة من داخل إسرائيل.