روايتها الجديدة «رحمة» توثيق لملحمة العبوديّة

صرخات ألم فظيع، وفرقعات سياط، ورصاصات لا تخطئ «الزنوج» أبداً. عوالم تسكن أدب صاحبة «نوبل». منذ باكورتها «العينين الأكثر زرقة» حتّى روايتها الأخيرة «رحمة»، نراها توثّق العبوديّة بنبرة ملحميّة مفرطة الرقّة

زياد عبد الله
«نصف غربية، نيويوركية، نيوجرسية، أميركية، أفرو ــ أميركية، وامرأة». هكذا عرَّفت الروائية توني موريسون (1931) عن نفسها، لدى تسلمها جائزة «نوبل» للآداب عام 1993. أرادت للجائزة أن تكون من نصيب كلِّ تلك المناطق والأمم والأعراق. لكن ما بقي ماثلاً أمام عيون الجميع، أنّها أول امرأة سوداء تنال الجائزة، كما صار باراك أوباما أوّل رئيس أسود للولايات المتحدة. لكنّ هذه الحقيقة لم تغيّر شيئاً في أدب موريسون.
في روايتها الصادرة أخيراً A Mercy «رحمة» (Knopf/ نيويورك)، تعود موريسون إلى 1690 في مسعى لتوثيق العبودية. «العبودية لا العنصرية»، تؤكّد في إصرار دائم على الفصل بين المفهومين. كعادتها في معظم أعمالها، تسود النساء روايَتها الجديدة. لكنّ موريسون ترفض أن تصنّف بالنسويّة: «لا أقر بالبطريركية، ولا أعتقد بوجوب استبدالها بالأمومية».
في باكورتها «العينين الأكثر زرقة»(1970)، كان جسد الأنثى منتهكاً تماماً، في نصّ يتمركز على حلم بيكولا «الزنجية»، بأن تنعم بعينين زرقاوين، فيما يحاصرها العالم جراء لون بشرتها: إضافةً إلى والدها الذي يغتصبها، تبقى ضحيّة العنصرية. ومنذ ذلك الوقت لم تتوقّف رحلتها في سبر تلك المنطقة المظلمة في الضمير الإنساني.
قراءة «رحمة» تحيلنا إلى ثلاثية «تاريخ أميركا السوداء» التي بدأتها مويسون في روايتها «محبوبة» (1987ـــ جائزة بولتيزر/ 1988)، وفيها تأخذنا إلى القرن التاسع عشر، وقضية مارغريت غارنر التي قتلت أطفالها خوفاً من أن يساقوا إلى العبودية، لكي تبقى محاطةً بأشباحهم. استكملت الكاتبة نبش ذلك التاريخ مع «جاز» (1992) المتميّزة بتداخل سردي تمليه «نوتات» الجاز وارتجاله، لتختم ثلاثيّتها مع «جنة» (1997). في «رحمة»، سرعان ما تتخلص الكاتبة من «السيد» ــ الذكر والأبيض ـــ للتفرُّغ تماماً لنسائها الوحيدات بعد موته. «موت السيد يعني موت العبد»، أو كما نقرأ عن البطلة لينا، لدى احتضار سيدتها البيضاء: «أيقَنَت الآن أنها في طريقها إلى الموت. هذا أيضاً نوع من اليقين بموتها هي، ما دامت حياتها وكل شيء، متعلق بحياة سيدتها».
في الحقيقة، تؤمن موريسون بأن السود استُخدموا، في أميركا مانعَ صدمات بين القوى الموجودة في المجتمع، وأداةً لمنع الصراع الطبقي. صاحبة «حب» (2003)، لم تؤيِّد أوباما في بداية ترشّحه، وعندما اتصل بها يسألها الدعم رفضت، «لكنّنا تجاذبنا أطراف الحديث» تضيف في حوارها المنشور في صحيفة «غارديان» البريطانيّة. وبعد ذلك عادت فأصدرت بيان تأييد للمرشّح الديموقراطي، تمدح فيه «حكمته». لم تكن موريسون على معرفة شخصية بأوباما، بل كانت معجبة كبيرة بهيلاري كلينتون. قبل تلاوة أوباما قسم الرئاسة الذي شاهدته برفقة أصدقائها على شاشة التلفزيون، قالت:«سيكون هذا جيداً، مثيراً للاهتمام، وسيكون له أثر كما أظن». هذا كل ما شكَّله فوز أوباما بالنسبة إليها، وخصوصاً أنّها حرصت على تحييد المسألة العرقية في خيارها الانتخابي: «لا يجب أن يكون لون البشرة سبباً للتصويت لمصلحة مرشح أو ضدَّه. قررتُ مساندة أوباما لأنّه شاعر».
موقفها من السلوك الانتخابي، يختلف عمّا تنظّر له، لا سيّما مع أطروحتها المتمركزة على نبش عُقَد الاضطهاد ومفاتيحها التاريخيّة، وإيمانها بأنَّ «الفردانية الأميركية»، نتيجة معرفية لاضطهاد الأسود. هكذا، نجدها تضع الأدب الأميركي تحت مجهر يتعقّب تفاصيل «تمثيل» الأبيض للأسود. ها هي تحيلنا إلى وصف إدغار آلان بو للأسود في قصصه بـ«المعتم»، وتنبش صور البياض في أدب إرنست همنغواي أو ويليام فولكنر وغيرهما. لديها قناعة راسخة بارتباط الهوية الأميركية بجانبها الأفريقي: كل مباهج تلك الهويّة وحسناتها مبنية على مناهضة «الأفريقانية» والوقوف ضدها عبر تشويهها، بغرض إبراز محاسن الهوية البيضاء. بكلمات فرانز فانون: “إنّ العرقي يصنع الدوني”، مع تحويل هذا الكلام لدى موريسون إلى أنّ العرقي يصنع المتفوق والفردي، وهو هنا الأبيض الأميركي. ما لا يمكن تحقيقه من دون الأسود الدوني. في «سولا» (1974) يُمنع السود عن قطعة أرض على تلَّة، لأنّ «الأبيض» قال إنّها أقرب إلى الله، لذا نراه يحاول ترحيلهم عنها، ليقيم مكانهم ملعب «غولف».
لدى موريسون حيز روائي أثير تتحرك فيه، قوامه مئات السنين من العبودية، و60 مليون إنسان قضوا بسببها، كما تورد في روايتها «محبوبة». في نصّها، نجد دائماً صرخات ألم فظيع، وفرقعات سياط، ورصاصات لا تخطئ «الزنوج» أبداً، وانعكاسات كلّ ذلك على المجتمع الأفرو ـــ أميركي، في نبش لحكاياته وعلاقاته الاجتماعية ومآزقه التي لا تنتهي. يبدو أدبها في النهاية توثيقاً لحيوات ضحايا الاضطهاد، وخلقاً لشخصيات لا تُمحى من الذاكرة في حزنها، فرحها، حنانها وجنونها. توني موريسون كائن صباحي، تكتب في الصباح الباكر في غرفة مسكونة بأشباح مماثلة لأشباح أطفال غارنر. تراها مناهضة دائمة لعالم تحكمه تمييزات الجنس وإكراهات العرق، والخوف. تقول: «ما الفرق بين أن يكون ما تخاف منه حقيقياً أم لا».

رباعيّة «تاريخ أميركا السوداء»



قراءة «رحمة»، الرواية التاسعة لتوني موريسون، ستحيلنا مباشرة إلى ثلاثية «تاريخ أميركا السوداء»(«محبوبة»، «جاز»، و«جنة»). لقد صارت رباعية الآن! هذه الرواية أيضاً تخرج من رحم العبودية، ومن تاريخها المترامي الأطراف، في تخطٍّ لآخر أعمالها الروائية التي سبقتها «حب» (2003)، حيث تروي قصص الحبيبات الكثر لبيل كوزي، المالك المتوفى لأحد الفنادق. تواصل توني موريسون في جديدها سردها المتعدد الأصوات، ويحوم طيف ويليام فولكنر بقوة فيها. نحن أمام شخصيات تتولى سرد حيواتها من دون مقدمات، وتنثر شذرات من أحداث سرعان ما تتضح مع توالي الصفحات والفصول.
الرواية التي صنّفت بين أفضل عشرة كتب لعام 2008، على لائحة «نيويورك تايمز»، تبدأ هكذا: «لا تخف. حكايتي لن تؤذيك رغم ما فعلته وأعدك بأن أتمدد وادعة في العتمة ـــــ ربما أبكي وأحياناً أرى الدم مرة أخرى ـــــ لكني لن أفرد أعضائي مجدداً لأنهض وأكشف عن أسناني». في الفصل الثاني، نحن أمام رجل يصل شاطئاً، إنّه أشبه بكريستوف كولومبس، الوصف يوحي لنا بذلك. نكتشف بعد ذلك أنه السيد جاكوب وأنّه في طريقه لتحصيل دين من صاحب مزرعة مترامية الأطراف اسمه السيد أورتيغا. هذا الأخير، يعرض عليه عوضاً عن المال أن يأخذ العبيد الذين يملكهم.
جاكوب ليس نخاساً، ولا يقبل إلا أن يأخذ الطفلة فلورنس التي تعرضها عليه أمها والتي سنكتشف أنها الراوية في البداية. من هنا تبدأ الحكاية. نكتشف كيف جاء جاكوب إلى أميركا لإدارة أرض ورثها عن أحد أقربائه المجهولين، وكيف أتته زوجته من البحر بعدما لفظها أهلها. ويتوالى اكتشافنا لبقيّة المصائر، وخصوصاً مصير فلورنس ومعها لينا في تناوب على السرد. هذه التقنية تضعنا أمام ما قد تفعله الفتاتان مع موت «السيد» و«السيدة»، وخصوصاً أنهما لم ينجبا أولاداً. كذلك تحيلنا الرواية إلى الكثير من الوقائع التاريخية، مثل قانون كارولينا الذي يشرعن قتل الرجل الأبيض لأيّ أسود. كذلك ترصد موريسون أعماق الواقع تحت نير العبودية، وخصوصاً لينا التي يدهشها مشهد رجل أسود يحدق في عيني سيدها مباشرة. «يا لها من وقاحة لم تر مثيل لها»، تقول الفتاة في نفسها.
رواية «رحمة» حافلة بالكثير وتتميّز بنبرة ملحمية لا يفارقها تقشف اللغة ووعورتها، والاستسلام لشعرية مفرطة الرقة حين يأتي الحب على لسان فلورنس: «ربما لا تعرف شيئاً عما يتبدى عليه ظهرك مهما كانت عليه السماء: مشمسة، مقمرة». لعلّ الرواية في جانب منها تضيء ما تقول عنه موريسون «الكيفية التي يتدبر فيها العبيد حياتهم، لمواصلتها».