صاحب الهويّة الملتبسة في مئويّته الثانية

لم يكن فقيراً ولا مريضاً ولا معذباً... لكنّ التاريخ حفظ اسمه بوصفه أحد رموز الرومنطيقية. كيف نعيد الاستماع إلى أعمال المؤلف الألماني الذي يعبر بنا أحياناً من خلال أغنية رحبانيّة معروفة هي «لينا ويا لينا»؟ نبذة عن مسيرة فريدة، جمعت بين شغف بموسيقى الباروك وانتماء إلى عصر بيتهوفن وشوبرت وشوبان

بشير صفير
سرق النمساوي جوزف هايدن (1732ــ 1809) الأضواء هذه السنة في الذكرى المئوية الثانية لرحيله. هكذا اعتُبرَت 2009 سنة أبي الحقبة الكلاسيكية، فكان أن حلّت مناسبتان أخريان في المرتبة الثانية. المناسبة الأولى هي المئوية الثانية لولادة المؤلف الألماني مندلسون، أحد أبرز رموز الحقبة الرومنطيقية، والثانية، الذكرى الـ250 لرحيل مواطنه (الذي اشتهر إنكليزياً) جورج فريدريك هاندِل (1685ــ 1759).
ولد فيليكس مندلسون بارتولدي في مدينة هامبورغ الألمانية في شباط 1809، لأبوين من عائلتين يهوديتين ميسورتين مادياً. والده أبراهام مندلسون أحد أشهر المصرفيّين في أوروبا آنذاك، وجدّه موزِس (موسى) مندلسون، الفيلسوف الألماني المرموق.
أتيح لفيليكس مجال الاطلاع على الفنون، بسبب الأجواء الفنيّة والثقافيّة المحيطة بعائلته، فانجذب إلى الفن التشكيلي والموسيقى بدايةً، لكنه جعل من الرسم هوايةً ومن الموسيقى (تأليفاً وأداءً) مهنةً بالمعنى النبيل للكلمة. كذلك فعلت شقيقته فاني التي تركت مؤلفات موسيقيّة قليلة لم تلقَ اهتماماً كبيراً.
عندما نقع على اسم فيليكس مندلسون في الكتابات التاريخية أو على أغلفة الأسطوانات، نقرأ في أغلب الأحيان شهرةً ثانية، «بارتولدي»، تلي شهرته الأساسية. فما هي قصة هذه الثنائية؟ تنتمي عائلة مندلسون إلى الديانة اليهودية أباً عن جدّ. لكن خال فيليكس، ياقوب (يعقوب) سالومون بارتولدي، نصح صهره بالتخلي عن ديانته واعتناق المسيحية (المذهب البروتستانتي)، وتغيير الشهرة لتصبح «مندلسون بارتولدي»، لأسباب شرحها في رسالة شهيرة تقول: «إنه لأمرٌ عادلٌ أن يبقى المرء أميناً لديانة مضطهَدة، يربي أولاده وفقاً لتعاليمها... لكن حين يضعف احتمال الخلاص عبرها، يصبح فرضها على من نحِبّ تصرفاً همجيّاً وتضحية مؤلِمة ولا معنى لها... كما أنصحُك بتغيير الشهرة عبر إضافة شهرة الوالدة، لكي تصبح العائلة فرعاً متميّزاً عن الأساس...».
إضافة إلى مؤلفاته الكثيرة التي تركها خلال حياته القصيرة (توفي إثر سكتة دماغية عام 1847)، أسهم مندلسون في إحياء باخ الذي لفّه النسيان على مدى عقود بعد وفاته عام 1750، من خلال البحث في مدونات الأخير وأدائها أمام الجمهور، وكان أبرز تلك الأعمال «الآلام بحسب القديس متى».
عندما نتحدّث عن مؤلفي الحقبة الرومنطيقية ورموزها مثل بيتهوفن وشوبرت وشوبان وشومان وغيرهم، يقال دائماً إنّ مندلسون كان أكثرهم كلاسيكيةً. هو لا ينتمي كلياً إلى هذه الحقبة، رغم أنه ولد وعاش في قلبها تماماً. هل هذا صحيح؟ وما هو سبب هذه الهوية الموسيقية الخاصة؟
بالفعل، إذا قارنّا أعمال مندلسون وأسلوبه في التعبير مع أسلوب أترابه الرومنطيقيين، فلا نجد قواسم مشتركة كثيرة، وكذلك الأمر إذا قارنّاه بمؤلفي الحقبة التي سبقته، أي الكلاسيكية. فمندلسون لم يكن يملك نقاوة الكلاسيكيين ولا موضوعيّتهم النسبية ولا حرارة الرومنطيقيين ولا ذاتيّتهم العالية. أمّا السبب فيمكن ردّه إلى أنه لم يكن بائساً ومتألماً ـــ بسبب المرض أو العشق أو غير ذلك ـــ ولم يكن فقيراً. وهذه كلها صفات «تحلّى» بها الرومنطيقيون مثل بيتهوفن ـــ بين الطرش والحب المستحيل والعَوَز ـــ وشومان ـــ بين الجنون وعذاب الارتباط بحبيبته كلارا ـــ وشوبرت ـــ بين الحب المستحيل وصحته الهشة والديون التي نتجت من تكاليف العلاج والدواء...
من جهة ثانية، أسهمت في تكوين هذه الخصوصية الموسيقية في مؤلفات مندلسون، الخلاصة التي نتجت من ازدواجية شغفه بمؤلفي حقبة الباروك وانتمائه إلى مجتمعه الرومنطيقي.
ترك مندلسون العديد من المؤلفات بأشكال موسيقية مختلفة، أشهرها تلك الموسيقى الأوركسترالية (هي جزء من مؤلفته «حلم ليلة صيف») التي ما زلنا نسمعها في معظم الأعراس في العالم وفي لبنان أيضاً. وهي بالمناسبة ليست أجمل ما كتب مندلسون، وليست أعظم موسيقى يمكن استخدامها في الأعراس، فحتى مؤلفها تزوج من دونها!
نسج اللبنانيون أيضاً علاقة غير مباشرة مع مندلسون عبر أغنية «لينا ويا لينا» التي أعدها الأخوان رحباني (وغنتها هدى) انطلاقاً من الحركة الأولى لكونشرتو الفيولون والأوركسترا. ومن مؤلفات مندلسون التي يعود إليه ابتكار فكرتها، مجموعة «أغنيات بدون كلام» وهي أعمال للبيانو المنفرد ذات طابع غنائي. تُضاف إليها أعمال دينية مثل مجموعة المزامير وغيرها وأعمال غنائية متفرقة (منها أعمال أوبرالية لم تحقق شهرة تُذكر). على صعيد المؤلفات الأوركسترالية، كتب خمس سيمفونيات وافتتاحيات وكونشرتو الفيولون الآنف الذكر (وعمل آخر من هذه الفئة لم ينتشر إلا بعدما نبشه عازف الفيولون يهودي مينوهين وأدّاه في عام 1952). كذلك كتب كونشرتوهات أخرى، أبرزها اثنان للبيانو والأوركسترا. وفي فئة موسيقى الحجرة، لمندلسون ستة رباعيات وتريات، ثُمانيّ وتريات وحيد، سوناتتان للبيانو والتشيلّو، ثلاثيّان للبيانو الفيولون والتشيلّو، وأعمال للبيانو وأخرى للأورغن.