سيزيف الدّمشقي توقّف في بيروتخليل صويلح
ليس تعبيرياً صرفاً، أو تجريدياً، أو تشخيصياً، إنّه مزيج من هذه التيارات ونقيضها في آنٍ. مروان قصاب باشي المولود عند تخوم الصحراء، بالقرب من دمشق (1934)، تشبّع باكراً بالضوء الشرقي، فحمله مثل مشكاة في ليل غربته الألمانية الطويلة. في مرسمه البرليني، سيخفت النور الذي كان يسيطر على أعماله الدمشقية، وستنبثق على سطح القماشة ألوان أكثر جرأة، تتناهبها نوازع وجودية، وهواجس شرقية مبهمة، تلفت إلى شعرية غامضة، لعلها انعكاس حاسم لتأثيرات المكان الجديد. لكنّ هذا التناقض بين فضاء مفتوح اعتاده قبلاً، وآخر صارم وحيادي، قاد تجربة مروان إلى نسيج بصري أخّاذ، انتهى بعد مخاضٍ قاسٍ إلى اختزاله برسم الوجوه. كأنّ رؤيته الشعرية للعالم، وهتاف الداخل والخارج، والمخزون الشرقي للون تكاتفت في نقطة مركزية واحدة، هي الوجه. لا تشبه بورتريهات مروان، ما أنجزه آخرون، لجهة التقنية والخطوط. في هذه البقعة المبهمة، تتكدّس طبقات ذاكرة تراكمية، تكشف عمّا يعتمل في الداخل في عملية نبش كورنولوجي محتدم، لإظهار الأسرار الدفينة خلف هذه الوجوه بكل تناقضاتها ومخزونها الحياتي والوجداني. نظرة متأمّلة لهذه الوجوه، تكشف عن متواليات متنافرة، تجمع الهشاشة والخوف والخفر، التأمل والانطواء، التجريد والتشخيص، لتفصح عن وجوه معذّبة، ومستلبة لأقدارها. وإذا بنا أمام أيقونة من طرازٍ خاص، تنطوي على لعبة مرايا متقابلة حيناً، ومتضادة أحياناً. المرآة هنا لا تشبه الأصل، بل تقوم بعملية نسف ونفي وتفكيك، لما اعتقدناه ثابتاً ويقينياً ونهائياً. أنساق بصرية متعددة، مسرحها الوجه بتضاريسه المتحوّلة. الوجه المشروخ، العرضيّ كحقل ألوان، أو الطوليّ المحروث بضربات قاسية، تحيله، في لحظةٍ، إلى طبيعة صامتة، أو هضاب مثلّمة بفؤوس حادة، أو مجرد إشارات تجريدية، وتفاصيل مبهمة تتخللها خطوط متشابكة أشبه بالمتاهة اللونية. ينبغي إذاً، أن نبحث بأناة عن الأبواب السرية لخريطة الوجه: كيف نفصل بين الجحيم والمطهر في رحلة «دانتي اللون»؟ وكيف نعبر بطمأنينة إلى الإشعاع السريّ لكائناته المضطربةوجوه مروان مخطوفة بالأسى والدمار والألم، وبحشد من العناصر المتشابكة، في تقاطعات لونية، تعكس جحيم الداخل في عملية هدم وبناء تأتي متعاقبة على الأرجح. هكذا تختفي ملامح الوجه وتصير مجرّد ضباب تنتهي أخيراً إلى بؤرة مركزية هي الفم. كأن صرخة مكبوتة ستنفجر بعد قليل، بحشد من الأسئلة، أو السخط والاحتجاج، وربما البوح بأسرار دفينة، وسط فضاءٍ خاوٍ وضاغط. «وجوه صامتة، كما لو أنّها معزولة خلف لوح زجاج يفصلها عن العالم الخارجي» وفق الناقد الألماني يورن ميركيرت.
ليست غواية اللون وحدها ما يسبر أعماق هذه الوجوه. هناك حوار خفي بين ضربة الفرشاة الخشنة، ومرجعيات هذا التشكيلي الذي وجد نفسه فجأة، نهباً لمحترفين متباعدين في الرؤى، فراح يحفر في المنطقة الفاصلة بين الباروك والصحراء، فسيفساء جديدة وساحرة، تنطوي على رحابة واختناق.
كائنات مروان (في نسختها النهائية؟)، مأزومة ومجروحة وثكلى، تنطوي على حدس لوني يؤدي إلى مسالك متشعبة. حتى إن مروان في تجارب السنوات الأخيرة، لم يعد يكتفي بوجه واحد في اللوحة، إنما بوجوه متقابلة، أو متجاورة، في وحدات سردية وإيقاعية، تنهض على ثنائية التناقض والنبذ، الغياب والحضور، الحياة والموت. هذا التشكيلي المتفرد، تتنازعه رؤى متناقضة، تجد تجلياتها القصوى في وجوهه المنهوبة، وألوانه الداكنة والكثيفة والمشبعة للتعبير عن عمق مأسوي أصيل. لا جواب نهائياً في أعمال مروان، فالسطوح تخضع للمحو المستمر، كما لو أنها جرف صخري تحت وابل من مطر اللون الكثيف، أو أنها «خريطة للخراب والاغتصاب والحزن».
المسافة التي تفصل بين دمشق وبرلين، يربطها خيط رفيع، إشراقي النبرة، ذلك أنّ أعمال مروان ظلت تستمد إشعاعها من شمس صحراوية محرقة، تتسرب وسط الضباب، لتجسد على مهل، روحاً شرقية، وإيقاعاً صوفياً، وتداعيات تجريدية، على شكل شذرات، كأنه يستدعي قولاً لابن عربي «وما الوجه إلا واحد، غير أنه، إذا أنت عددت المرايا تعدّدا». هذه النفحة الصوفية تجد صداها العميق في طبقات الوجوه التي بالكاد تؤطرها الخطوط واللطخات اللونية. هناك إذاً ألق وانكسار، إشراق وجدل، بوح وصمت، ندم واطمئنان، في احتمالات وانفعالات تعكسها روح الفنان بدفقات لونيّة حارة وآسرة، يصعب التقاطها. لعل هذا ما أشار إليه صديقه الروائي الراحل عبد الرحمن منيف في قراءته لوجوه مروان: «لم أستطع فتح الأبواب الموصدة، فهي تغلق العين والقلب، وتؤلم الروح، فيصبح الأفق رمادياً، ويفقد الأخضر طعمه، ولا تنفع المواساة». لن تبارحنا وجوه مروان بسهولة. ستضعنا في مهب أسئلة حول الوجود، والبصر والبصيرة. هذه الندوب الغائرة، تنطوي على تشظّ، وسجادة أحزان بين خيوطها تختبئ شيفرة سريّة عن كائن مجبول من التراب والألم، في رحلة سيزيفية، محمّلة ببخور الشرق، وصقيع الشمال.

«مروان، الأعمال الأولى والأعمال الجديدة»: من 9 نيسان (أبريل) حتى 11 حزيران (يونيو) المقبل ـــــ «غاليري صفير ـــــ زملر». للاستعلام: 01/566550

قراءات في تجربة مروان قصاب باشي
يورن ميركيرت
(ناقد ألماني)

لو طُلب مني أن أذكر أسلافاً لفنّ مروان لذكرت في المقام الأول أنطونان آرتو برسومه الخالدة التي صوّر فيها نفسه وآخرين، والتي أنجزها في «مصح رودز». هي قائمة على التوازن نفسه، بين النشوة والاضمحلال، مما نراه عند مروان. كنت ذكرت كذلك إدوارد مونش وفان غوغ لبصيرتهما التصويرية التي عبّر كلّ منهما، بطريقته الرؤيوية الخاصة، عمّا عرفه عن الإنسان ووجوده، وألبرتو جياكوميتي للتطابق في عمله الفني بين القرب والبعد، ذلك أنّ الوجه في عمل مروان يتداعى عند الاقتراب، فيتحوّل إلى نوعٍ من لعبٍ حرٍ للألوان.
يتخيّل مروان الرأس عالماً، ومشهداً للروح، ودائرة كبيرة تنطوي على الكون، ومكاناً للعذاب والكآبة والحب. ذلك أن العيون تتجه دوماً نحو الداخل. هكذا تتوهج وتصد في آن واحد.
وقد كوّن مروان هذه الفكرة الرئيسية ونوّع عليها، طول عقودٍ كثيرة. وهي تعكس على رغم محدوديتها إمكاناته الفنية كلّها. في هدوء لوحاته نشعر بالحركة، ونحسّ بقربها الحميم من الشعر، بوصفها تظهر الخفي. يعمل أثر اليد على الوصول إلى صوت القلب، ويعمل صوت القلب على الإفصاح عن إيقاع العالم.

يوآخيم سارتوريوس
(شاعر ألماني)

تكشف صور مروان عن الغلالات الداخلية لموديلاته، تلك الطبقات المتعددة التي يغطي بعضها بعض أجزاء بعضها الآخر، والتي تميّز بمجموعها الكثافة الكاتمة لشخصٍ ما، وتقدم بذلك استثناءات نادرة في عمله دليلاً هاماً لفهم فنه على الإطلاق. مروان ليس بطل الضربات القاضية ولا معلم الوخزات الصغيرة. استراتيجيته متميزة بحذاقة لا تقارن. فبالرقص بين الألوان على طاولة الرسم، والقماش على الحامل، والمنظر، منقّلاً بصره هنا وهناك، نسج خيوطه الآسرة برقةٍ ومكر.

روبرت كودييلكا
(شاعر ألماني)

في برزخٍ بيننا
ليس نقطة غيبية
بل عمق بين الجلد المسلوخ
وقناع الموت الخفي

كليتون اشيليمان
(شاعر أميركي)