في كتابه النثري الثاني «هجرة الكلمات» (دار الآداب)، منح قصيدته عمراً جديداً حين لم يحتكم إلى العروض. لكنّ الشاعر الذي تربَّت مخيلته على بحور الفراهيدي، لن يتخلّى عن متانة جملته ونظرته المموسقة إلى العالم
حسين بن حمزة
إذا كان لكل شاعر مشكلة مع النثر، فالأرجح أنّ لشوقي بزيع مشكلة مع «قصيدة النثر» لا النثر عموماً. لكن مهلاً، صفة «المشكلة» لا تعني هنا أنّ ثمة سوء فهمٍ أو محنة عسيرة لأي شاعر مع النثر. وفي حالة صاحب «فراديس الوحشة» ـــ وهو أحد عُتاة قصيدة التفعيلة ـــ لا بد من القول إنّ قصيدة النثر صادقت الشاعر، وكان لها مساهمة أساسية في تعديل مزاج نبرته الشعرية وعبارته المخلصة للإيقاع والوزن.
نسوق هذا التمهيد، ونحن بصدد كتاب بزيع النثري «هجرة الكلمات» (دار الآداب)، وهو الثاني له بعد «أبواب خلفية» (2004)، لنشير إلى أنّ الشاعر نجح في منح قصيدته عمراً جديداً، أو إضافياً، حين لم يحتكم إلى العروض فقط في قياس جودة ما يكتبه، أو رضاه الذاتي عن هذه الكتابة. لا يزال الشاعر محتفظاً بموسيقاه وتفعيلاته بالطبع، لكن ما عاد ممكناً أن نساوي بين المكونات الإيقاعية لشعره وبين الحصيلة التي نخرج بها من قراءة هذا الشعر. القصد أنّ مهاراتٍ وتقنيات عديدة تدخَّلت في ابتكار ما قرأناه. وجزء كبير من هذه المهارات جُلِبَ من عالم النثر ومن «قصيدة النثر» تحديداً. لقد احتكَّت قصيدة بزيع بأفضل شعريات النثر، وهذا ـــ فضلاً عن أسباب أخرى ـــ ما جعل قصيدته تتخفَّف من الصوت العالي والغنائية المفرطة ورُهاب الوزن وضوضاء الفكرة المسبقة وجلبة الأيديولوجيا. شوقي نفسه لا يُخفي هذا الأثر. في أول مادة من الكتاب، وهي شهادة في تجربته، يصارح القارئ بنفاد المعنى الذي استندت إليه مجموعاته الثلاث الأُوَل، وبأنه صمت عن الشعر خمس سنوات قبل أن يعثر على المعادلة التي أعادته إلى الكتابة: «أتاح لي الصمتُ أن أقرأ كل التجارب المغايرة، ومن بينها قصيدة النثر، بتفهُّم أكثر وحب أشد. (...) لقد وضعتني النماذج العالية لقصيدة النثر أمام نوع آخر من الجمالية الرحبة التي تعتمد الكثافة والإيحاء والتوازنات الإيقاعية والبصرية المدهشة». وكانت النتيجة مجموعة «مرثية الغبار» التي مثّلت انعطافةً حاسمةً في تجربة الشاعر. انعطافة كانت «ثمرة تلك الحرب الضروس بين ما كنتُه وبين ما أردت أن أكونه» بحسب تعبيره.
لكن لماذا نستذكر هذا ونحن مدعوون إلى كتابٍ نثري؟ الجواب موجود في طيَّات الكتاب نفسه. إذْ لا ينسى الناثر شوقي بزيع الشاعرَ الذي في داخله. والسبب لا يعود إلى أنّ معظم مواد الكتاب تتحدث عن الشعر والشعراء واللغة الشعرية... بل لأنّ الشغف الذي كتبت به هذه المواد هو شغف شعري خالص. نقرأ فيُخيَّل إلينا أن ما نقرأه هو مكابدات بزيع الشعرية ذاتها، لكنّها هنا مُنحت الفرصة لترتاح من مستلزمات الإيقاع والموسيقى. الغنائية المخفَّفة والفصاحة اللطيفة لا تتخليان عن النثر الموجود في الكتاب. ثمة روحية شعرية في هذا الكتاب الذي أُريد له أن يحتوي مقالات ذات هوية نثرية واضحة. القرّاء المواكبون والقريبون من تجربة صاحب «سراب المثنى» لن يُفاجأهم وقوع الشاعر في غواية النثر، ما داموا يقبضون عليه بـ «الجرم الشعري المشهود» في ممارسته هذه. إنهم لا يجدون فيها ما يعرفونه من مهملات النثر وركاكاته واستطراداته. الشاعر الذي تربَّت مخيلته على بحور الفراهيدي لن يسهُل عليه أن يتخلى عن متانة جملته أو عن نظرته المموسقة إلى العالم. لا يفلت الشاعر ـــ وإن أراد ـــ من شجن غنائه وجزالة معجمه واستعاراته. ولعل عنوان «هجرة الكلمات» وحده يحمل ما يكفي من الدلالة على أنّ «كل كتابة حقيقية هي هجرة في اللغة وسفر في الكلمات».
الإشارات السابقة، لا تنفي أنّ بزيع يهجِّر نبرته الشعرية إلى أرض أخرى. ما نقرأه هو مقالات لا قصائد. هل قلنا مقالات؟ الأرجح أنّ هذه التسمية تبيّن الفارق الطفيف، لكن الجوهري، بين النثر كنصٍّ زاهدٍ بالوزن والقافية والإيقاع والمتانة والفصاحة وبين كتابة نثرية تناقش موضوعات وتحلّلها وتقول رأياً فيها. أغلب محتويات «هجرة الكلمات» تنتمي إلى النوع الثاني من النثر. القصد أنّ القارئ يمكنه معاملة الكتاب باعتباره مجموعة مقالات. إنّها مقالات مكتوبة بشغف وحساسيّة وذكاء. لكن فن المقالة شيء وممارسة النثر المحض شيء آخر. لا نريد بهذا التفريق الذي يمكن إهماله أو اعتباره مجرد إجراء تحليلي، أن نقلل من أهمية وعذوبة ما نقرأه في كتاب شوقي بزيع، لكنها مناسبة مواتية للحديث عن نوعين من النثر يتراءيان كنوعٍ واحد.