«غرامشيّة» الهوى تفضّل الطوابق السفلى
النظريات والتعميمات الكبرى تتفتّت في كتابتها. الأسئلة الكبرى تتحوّل إلى تساؤلات بسيطة تخطر في بال الجمهور العريض: ختان المرأة، الحجاب، الحلال والحرام، الفتاوى... الباحثة التونسيّة تشتغل على ما هو شعبي وشعاراتي وتفضّل العمل في الطوابق السفلى

حسين بن حمزة
تكتب الباحثة التونسية رجاء بن سلامة ما هو متداول في التفكير اليومي، وتشتغل على ما هو شعبي وشعاراتي. إنها تعمل بمنطق قارئ الصحيفة ومتصفّح الإنترنت والمصغي إلى الكلام الشفوي. ثمة مصطلحات وقضايا كبرى في كتابها الجديد «في نقد إنسان الجموع» (دار الطليعة)، إلا أنّها تحضر هنا، وقد تخفَّفت من حمولتها الفكرية والفلسفية المحضة. إنها موجودة كحاضن للسجال مع قراء عاديين. مقالات الكتاب ــــ كما جاء في المقدمة ــــ هي في نقد الجموع، وتديُّن الجموع، والنخب العربية عندما تساير ثقافة الجموع. هناك سجال آخر، بمصطلحات كبيرة ونظرية، يدور بين مفكرين وباحثين عرب. هؤلاء يشتغلون على مشروعات نظرية وفكرية، أغلب ممارساتهم تحدث في الطوابق العليا. بن سلامة لا تنقصها العُدّة النظرية ولا العتاد الفلسفي، لكنها تُؤْثِرُ العمل في الطوابق السفلى. يمكن أن نطلق على عملها صفة «الفكر التطبيقي» ونعامله مثل «النقد التطبيقي». هي نفسها تصنّف نصوص كتابها «في باب «الفكر اليومي» الذي لا يتعالى على الراهن». النظريات والتعميمات الكبرى تتفتت في كتابتها. الأسئلة الكبرى تتحول إلى تساؤلات بسيطة من النوع الذي يخطر في بال الجمهور العريض: ختان المرأة وحجابها، حقها العادل في الإرث، حكم الردّة، الاعتراف بمواطَنة كاملة لغير المسلمين، الهوس بالحلال والحرام، حقّ الإنسان في أن يكون لا أدرياً أو ملحداً، الفتاوى... حين تخوض بن سلامة في هذه الموضوعات، لا يظلّ نصّها حبيس السجال الديني الصرف. إنّها تتجاوز ذلك إلى حدود أرحب، فيحضر علم الاجتماع والتفكيكية والتحليل النفسي والثقافة الشعبية... كما أن شغفها بالأدب يُسهِّل تسرّب أسماء أمثال: دوستويفسكي وفرجينيا وولف وفلوبير وفرويد والتوحيدي.
لكن كيف يحدث هذا؟ ولماذا يقلّ التنظير الفلسفي لدى صاحبة «صمت البيان» (1999)؟ الجواب هو رغبة الكاتبة في معالجة قضايا ملحّة والوصول إلى نتائج ملموسة. هذه الرغبة ناجمة ـ بدورها ـ عن عاملين أساسيين: الأول أنّ نبرة المؤلفة محاذية للفلسفة الأوروبية الحديثة التي تشظَّت إلى فلسفات صغرى، بينما لا تزال الفلسفة عندنا ـ في مجملها ـ محض فلسفة. والثاني انتماؤها إلى نسق يجمع بين الأدب والنقد والتحليل النفسي والتفكيكية. ما يجعل تسرُّب معطياتٍ مختلفة إلى نصها أمراً ممكناً ومحبباً.
التحليل والتفكيك يساعدان بن سلامة على معاينة الأصل الغائر لظواهر وممارساتٍ وتقاليد سائدة. يمكننا أن نسمّي ذلك هجرة العلامات والرموز من الماضي إلى الحاضر. وبتعبير المؤلفة: «ما دمنا لا نقبل بموت ما نرث ومن نرث، ولا نقبل ببقائه من حيث هو رمز وذكرى، فإننا لسنا ورثة، بل ضحايا لأشباح من الماضي». القصد هنا هو التساؤل عن جدوى سريان حياة أسلافنا على حياتنا الراهنة، أو جدوى «هذيان اللجوء إلى الأصل».
وفق هذا المنظور، تُعيد بن سلامة الختان والعباءة السوداء إلى هاجر زوجة النبي إبراهيم التي حُكم عليها بأن «تُخْفَض (تُختن) وتجرّ ذيولها، مخفيةً دماءها النازفة». إنّها «لعنة الجدة الأولى» المتكررة حتى اليوم. وفي مسألة «للذكر مثل حظ الأُنثيين»، تقارن حصة المرأة المسلمة في الإرث بحصة ابن الزنى في القانون الفرنسي (الذي عُدِّل سنة 2000). وبمنطق هجرة الدلالات، يكون صمت المثقف عما يجري في دارفور محكوماً بـ «عنصرية» غير معلنة. أما الفتاوى وظاهرة الدُّعاة الجدد، فهما «اجتهاد مزيَّف (..) ومُنتج يُسوَّق في إطار البيزنس الديني». وفي مكان آخر، تطرح فكرة رائدة عن غياب الانتماء إلى الإسلام باعتباره ثقافة لا ديناً فقط. إذْ «لا يوجد في العربية مقابل لما يُعبَّر عنه بالفرنسية بـ Judaïcité و chrétieneté وهما تعنيان طريقة الإنسان في أن يكون يهودياً أو مسيحياً بصرف النظر عن عقيدته وعلاقتها بالمعتقد المكرَّس».
تبرع بن سلامة في الرجوع إلى ممارسات غابرة وربطها بسلوكنا الراهن. إنها كتابة ذات حمولة نخبوية ومثقفة، لكنها تخاطب الجمهور العريض بسلاسة. لعل الخطورة تكمن في هذا النوع من المخاطبة. وهي خطورة عرَّضت صاحبة الخطاب لحملات تكفيرية اتهمتها بـ «الزندقة» وطالبت بشنقها.
تختم بن سلامة كتابها بسؤال في غاية الأهمية: هل حقّق الجدال مع الإسلاميين تراكماً معرفياً يمكن أن يخلق تديُّناً مختلفاً عن تديُّن الأصولي والمتعصب والإرهابي؟ لا تجيب صاحبة «العشق والكتابة»، لكنّها تقترح «حساباً ختامياً» تقسِّم فيه مجادلي الإسلاميين إلى نوعين: مَن جادل وهو يشترك معهم في المنطلقات نفسها، ومن جادلهم انطلاقاً من مرجعية علمانية. بن سلامة التي تعتبر نفسها من النوع الثاني، تدعو إلى «الحذر من المتعة التي يولِّدها الخصام مع الإسلاميين، والانتباه إلى لعبة المرآة التي يولّدها الجدال معهم».
هذه «الوقفة التأمّلية» تكشف مقدار الحيوية التي يمتلكها خطاب بن سلامة. في غمرة انغماسها في الدفاع عن آرائها، تستدير صاحبة «نقد الثوابت» لتتفحّص ما تحقّق وما لم يتحقّق. لنتذكر أن هذا النوع من المراجعات شبه معدوم في ممارساتنا الثقافية.


من «العشق والكتابة» إلى «العقلانيين العرب»
منذ البداية، اختارت رجاء بن سلامة أن تشتغل على قضايا سجالية وملموسة. قد تتوغّل في التراث والنظريات، لكنها تفعل ذلك لحاجة منهجية وأسلوبية. بالنسبة إليها، النصوص مستودع علامات وبصمات وإيحاءات. هل لهذا علاقة بكونها أتت من الكتابة الأدبية؟ تجيب: «من الناحية الفكرية، أتيتُ إلى نقد ما هو اجتماعي وسياسي من باب التفكيك الداريدي ومن باب التحليل النفسي.
أعشق الأدب لكنني لا أحب الاشتغال عليه من أجل الأدب. أطروحتي في الدكتوراه عن «العشق والكتابة» لم تكن في النقد الأدبي كما يُوحي عنوانها. الأدب كان واحداً من المواضيع التي اشتغلت عليها إلى جانب النصوص الدينية والفلسفية عن العشق.
استخدمت «الكتابة» بالمعنى التفكيكي، أي الاهتمام بالبصمة الفريدة وتناثر الدلالات والإيحاءات».
وهل هذا سبب عدم الخوض في غمار ما هو تفلسف محض؟ تقول صاحبة «بنيان الفحولة»: «الفيلسوف يهتم بالمفاهيم. أنا أهتم بالدوال وبدورها في إثراء المفاهيم ومراجعتها. أنا لا أحب التنظير المحض ولا المناهج الشكلانية. تكويني الأساسي لغوي أدبي ديني (أي فيلولوجي) لا فلسفيّ. وجدتُ ضالتي المنهجية في التحليل النفسي، واستلهمته في أطروحتي، وفي الكثير من مقالاتي».
بن سلامة التي أهدت كتابها «نقد الثوابت» إلى الشبّان الناطقين بالعربية، تكرر ذلك في كتابها الجديد.
لعل هذا يفسِّر نشاطها وحضورها اللافتَين في الشبكة العنكبوتية، حيث نسبة الشبّان فيها أعلى من وسائل الإعلام والاتصال الأخرى: «أحب مخاطبة الشبان، ربما لهشاشة أتخيّلها عندهم، وربما لأني أفتقد الصلة بالطلبة بعد انقطاعي عن التدريس في الجامعة». ولهذا، فإن معظم مقالات كتابها نُشر في عدد من المواقع التي «مكّنتها كما مكّنت أمثالها ومثيلاتها من النشر، ووسّعت عليهم ما ضاقت به مدنهم وصحفهم، وجعلتهم لا يأبهون بالمصادرة الورقية».
بن سلامة تترأس اليوم تحرير موقع «الأوان» الذي تأسس العام الماضي، وهو منبر «رابطة العقلانيين العرب» أيضاً.
ما الذي تحقق من طموحات الموقع؟ تقول: «في عشرة أشهر ارتفع عدد الزائرين من 2000 إلى 10000. نشجِّعُ كتّاباً وباحثين غير معروفين إلى جانب نشرنا لكتّاب معروفين. نفتح الباب أمام مقالات قد تُصادر وتُمنع في منابر أخرى، كما نترجم مقالات كثيرة عن لغات أجنبية. الموقع تجربة فريدة. نقوّم المقالات بكل شفافية ونتقاسم الأدوار كلٌّ بحسب ما يبرع فيه، ونتدرَّب يومياً على تحويل شعاراتنا إلى ممارسة وثقافة».