النقاش مستمرّ حول قصائد محمود درويش «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي». طليس يدعو إلى إشراك شعراء تفعيلة في التحضير للطبعة الجديدة
عبد الغني طليس (*)
يكاد محمد علي شمس الدين وشوقي بزيع يصبحان «فتيل» معركة شعرية ـــــ نقدية ـــــ إنتاجيّة حول كتاب جمعَ القصائد الأخيرة لمحمود درويش «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي ـــــ الديوان الأخير»، بل سبب «التشهير» بدرويش، فقط لأنّهما لفتا الانتباه إلى خلل تكرّر في تفعيلات قصائد الكتاب، فضلاً عن أخطاء مطبعيّة! هل يمكن أن نصدّق أن «المشكلة» هي فيهما لأنّهما أوّل شاعرين ـــــ ناقدين يكتبان عادة قصيدة التفعيلة، أجريا مراجعة نقدية للكتاب فأضاءا على الخلل... فيما لو أنهما لا يكتبان «التفعيلة»، ولا يعرفانها، لمرّ الأمر عليهما كما على غيرهما مروراً عادياً؟ بمعنى آخر: هل المشكلة في مَن كَشَفَ الخطأ، أم في مَن أخطأ حتى ولو كان درويش نفسه، وهذا مستحيل؟! نعم، مستحيل. فالشاعر العربي الكبير ـــــ على مدى أربعين عاماً ـــــ كان يكتب القصائد الموزونة عمودياً، والمفعّلة على حد سواء: الموزونة على البحور الشعرية المعروفة بتفعيلاتها المتنوّعة في البيت الواحد، والمفعّلة أي التي تُبنى على تفعيلة واحدة في كل القصيدة. ولم يحدث أن اكتشف ناقد أو شاعر أو قارئ خللاً في قصائده السابقة ودواوينه... فماذا حدث حتى «يتبيّن» لنا بعد رحيله أنه خَطَّاءٌ في التفعيلة، بل في قواعد الصرف والنحو!؟
أغلب الظن أنّ القصائد التي تولّى الروائي إلياس خوري ترتيبها قبل النشر، كانت أحياناً «مشربكة» بين سطرٍ مُرضى عنه من الشاعر، وآخر مضاف، وثالث ممحوّ (ومسوّدات القصائد «عجيبة» عادةً)، وكانت بعض الكلمات غير واضحة، ما اضطرّ خوري إلى «التكهُّن» وإجراء تقدير معيّن لها باعتماد كلمة مثلاً مكان كلمة أخرى مبهمة الحروف مكتوبة بخط اليد، أو ما شابه. وبما أن خوري غير مُلمّ بالتفعيلة بدقة، أتت بعض الكلمات غير مطابقة إيقاعياً للتفعيلة المعتمدة في القصيدة، فحصل «النشاز» في الإيقاع، ما شكّل سؤالاً جدياً لدى شمس الدين وبزيع عن كيفية ورود تلك الأخطاء الإيقاعية في شعر شاعرٍ هو في غاية الاحتراف... تماماً كما يحدث عندما يستمع أشخاص (بشكل انطباعي) مثلاً إلى أداء مغنٍّ ذي صوت جميل، فَيُسْحَرون بصوته، من دون أن ينتبهوا إلى أنه «نشّز» هنا أو هناك، فتصبح المشكلة في بعض «السمّيعة» الذين أشاروا إلى «النشاز»، بدلاً من أن تكون في «السمع الانطباعي» الذي يأخذ الأمور بلا تدقيق. وقد تبيّن أن التفاصيل يسكنها الشيطان حتى في الشعر. و«النشاز» هنا ليس في كتابة درويش، بل في «التصرّف» بها.
بالنسبة إلى شاعر يكتب القصيدة العمودية أو المفعّلة، كشمس الدين وبزيع، وقبلهما درويش، فالخلل في الوزن مسألة لا يمكن التغاضي عنها. أما لمَن يكتب القصيدة النثرية ـــــ الحرة، أو يقرأها ولا يعنيه الوزن فالمسألة، في حال ورود أخطاء عروضية، لا تحتاج إلى كل ذلك العناء!
تصحّ في هذه القضية مقولة «اللي بيدري بيدري... واللي ما بيدري بيقول كفّ عدس»!
ببساطة، كان على إلياس خوري الذي تعامل مع قصائد درويش «المكتشفة» بكثير من الحب... الأنانيّ، أن يتشارك مع شاعر «تفعيلي» تحديداً ممّن خبروا لغة درويش وعوالمه الشعرية الغنائية، على الأقل في شأن بعض الكلمات الملتبسة أو المستبدلة لتعذُّر قراءتها (في حال حصول ذلك).
أما وقد «وقعت الواقعة»، فليس الحلّ في إعادة إصدار القصائد كما هي نكاية بمَن انتقد عروضها (لا عرضها!)، أو نكاية بمَن «احتكرها» أول مرة... بل بعرض النصوص الأصلية على شاعر تفعيلة مدرك لأسرار شعر درويش، لإجراء معاينة موضعية لكلمات وتعابير غير «مفهومة»، ومعالجتها لا أكثر ثم إعادة إصدار الكتاب بما يليق بدرويش أولاً وبـ«دار الريّس» ثانياً، وبشعراء التفعيلة والنثر معاً ثالثاً؛ وبحبّ إلياس خوري... الأناني رابعاً، وبالقارئ العربي أخيراً... وأولاً. كأني بدرويش يريد أن يغيّر عنوان الكتاب، حالياً، ليصبح «بلى أُريد لهذي المسألة أن تنتهي»!

(*) شاعر واعلامي لبناني