بشير صفير
هل الموسيقى محرِّك الدّين أم العكس؟ على مدى قرون، لم تكن الموسيقى (الأوروبية) ممكنة لولا دعم السلطة الكنسية التي كانت تحتاج إلى الموسيقى على المستوى الروحي. لكنّ التاريخ أثبت أن الموسيقى تخلت عن الكنيسة (منذ موزار تقريباً)، عندما وجدت سلطة مدنية تدعمها. أما الكنيسة (والأديان عموماً) فلا يمكن أن تتخلى عن الموسيقى.
في الفترة بين القرون الوسطى وحقبة الباروك، قلّما نجد موسيقى غير دينية. وحتى يومنا هذا، ما زالت آلام المسيح توحي للمؤلفين الموسيقيين. ولعلّ أهم عمل في التاريخ تناول الآلام هو لباخ (1685 ـــ 1750).«الآلام بحسب القديس متى» عملٌ (مدته أقل من ثلاث ساعات) حمّله باخ كل عبقريته التي طالما سخّرها في خدمة الخالق. لباخ أيضاً رائعة أخرى بعنوان «الآلام بحسب القديس يوحنا». أمّا الشكل الموسيقي الأكثر رواجاً في هذا السياق فهو الـ«ستابات ماتر» المبني على نص ديني تاريخي يعود إلى القرن الرابع عشر. كثيرون لحنوا هذا النص الذي يصف الحالة النفسية لمريم العذراء عند الصليب، أهمهم الإيطالي جيوفاني بيرغوليزي (1710 ـــ 1736) الذي خلد اسمه بهذه المؤلفة رغم رحيله المبكر. نصٌ آخر جذب كثيرين هو الـ«ميزيريري» وهو من مزامير التوبة، وله قصة تاريخية مع «الملعون» موزار. عام 1648 لحّن الكاهن الإيطالي غريغوريو أليغري (1582 ـــ 1652) النص (عمل غنائي لتسعة أصوات دون مرافقة موسيقية) ووضعه في عهدة البابا الذي أمر بإنشاده سنوياً خلال أسبوع الآلام في الفاتيكان (شابيل سيكستين). وأمر أيضاً كل من يشارك في أدائه بعدم تسريب أي نوتة تحت طائلة الحرم الكنسي. استمر الأمر على هذا المنوال أكثر من قرن حتى جاء موزار البالغ تسع سنوات مع والده إلى إيطاليا عام 1765. تزامنت الزيارة إلى روما مع أسبوع الآلام، فصحب ليوبولد ابنه العبقري لحضور الصلاة في الـ«شابيل سيكستين». عندما عادا إلى المنزل، فُجِع الوالد برؤية الـ«ميزيريري» مدوَّناً بالكامل! في اليوم التالي، وضع موزار المدوّنة في قبعته مبرراً لوالده: «ثمة نوتات قليلة لست متأكداً منها مئة في المئة». ومن يومها، انتشر هذا العمل الجميل وأتيح للبشر فرصة التمتع به، بعدما احتكرته الكنيسة لعقود. أمّا لبنان فله جوهرته في هذا المجال. إنّها أسطوانة «الجمعة الحزينة» لفيروز التي حوَت مجموعة ترانيم دينية خاصة بأسبوع الآلام. يعود تسجيل هذه الأعمال إلى الأعوام 62 و64 و65، وتؤديها فيروز بصوت ملائكي من دون مرافقة موسيقية تذكر (مرافقة جزئية للأورغن الكنسي، ومشاركة محدودة للكمان)، وتشاركها جوقة في الغناء. وكل سنة، جرت العادة أن تطلّ علينا السيدة من إحدى الكنائس يوم الجمعة العظيمة عند الطوائف الشرقية. وعلى رغم التكتم الشديد على الزمان والمكان، فانّ آلافاً من محبّي فيروز، على مختلف طوائفهم، تدلّهم قلوبهم إلى منديلها الأسود... إلى حيث ستركع وتصلّي.