محمد خير«على أن الملل ليس في وقفتي هذه، ولا في «ظريف» فقط، لكنه أيضاً ملل من الذاكرة، فقد استنفدت كل ما يمكن لي أن أتذكّره، أو يستحق جهد استحضاره في حياتي كلها تقريباً». «ظريف» هو أحد تجّار سوق «وكالة البلح» القاهري الشعبي. يعمل سعيد عنده بائعاً لملابس رخيصة. الأخير هو الراوي في رواية أشرف عبد الشافي «ودّع هواك» (ميريت ــــ القاهرة). هو بطل الرواية لكنّه ليس بطلاً حتى لحياته الخاصة، جاء من بلدته إلى القاهرة ليعمل صحافياً، متبعاً خطى حامد ابن بلدته الصحافي الناصري. لكن الخيبة أصابت كليهما وأطاحت أحلامهما المهنية والمادية. عاد حامد إلى قريته مشيّعاً بالخسارة ومستقبلاً بالشماتة. أما تلميذه سعيد ففضّل أن يتجرّع مهانة العمل صبياً لدى تجار أميين، انتظاراً لعودة متخيّلة لعمله الصحافي، بعد سنوات من الانتماء لصحف ناصرية، اكتشف أنها ليست إلا ديكورات مسرحية، صفقاتها تجري وراء كواليس، وما على أمثاله سوى أن يكونوا ممثلين أو جمهوراً. عنوان الرواية هو من أغنية شهيرة لمحمد عبد المطلب. أما الأحداث فتغلّف الخسران بالسخرية، ثمة إحساس بخفّة القناعات التي أدت بالراوي و«أستاذه» إلى طريق الخيبة: لا هما استوعبا «لغة العصر» فحققا مكاسبهما الشخصية، ولا استطاعا أن يدركا في الوقت المناسب زيف أحلامهما. هكذا تحوّل كلاهما إلى آلة لتدمير ذاته، إلى ذهنية انتقائية رفضت رؤية كل ما يتنافى وقناعاتهما. لقد تمكنت منهما هذه الطريقة في الحياة ووفرت لهما حماية موقتة ضد رداءة الواقع. لكنها تركتهما مراهقين أبديّين يفتقران إلى النضج. ليس غريباً إذًا أن يعجز حامد لاحقاً عن الاستمتاع بآخر فرصة منحتها له الحياة: علاقة حب واعدة مع الفرنسية آن، وأن يظل سعيد في وقفته الأبدية بالسوق، يستحلب ذكرياته دون توقف، منحدراً في مهانته يومياً. لكنها مهانة «مناسبة تماماً لرحلة كفاح تستحق الإجلال والتقدير» حالماً: سيزوره يوماً من يطلبه للعمل بالصحافة مجدداً، بعد أن يقع على كلماته، بالمصادفة، صحافي كبير... إلى أن يحدث ذلك، يواصل البقاء على قيد الحياة، ليس أكثر.
مع ذلك، تبقى شخصيات سوق الوكالة، ظريف وعماد وخليل، سعاد ويوسف وغيرهم، من أبرز ما يميّز «ودع هواك». شخوص من لحم ودم وعالم رائق حتى في قسوته، يجابه أفراده ما تأخذه إليه غرائزهم، وما تفرضه ثقافتهم من دون أدنى أوهام كالتي دفع سعيد وحامد حياتهما ثمناً لها.