أين تنتهي التكنولوجيا ليبدأ الفن... وبالعكس؟نوال العلي
يمكن للثورة الرقميّة أن يكون لها أثر الفياغرا على الفن، أن تُحدث هيجاناً تشكيليّاً ذا حدّين بطبيعة الحال. وفيما كانت المسافة بيّنةً، في وقت من الأوقات، بين الإبداع والفنّ الصالح لاستهلاك العامّة، باتت القيم الجمالية أكثر تعقيداً وحملاً للأوجه مع ولادة الرقميّة التشكيليّة... لا سيما أنّ جمهور هذا النوع من التشكيل من الفنون المعاصرة ما زال مجهولاً وجاهلاً. وفي هذا الصدد، يبقى السؤال المطروح دائماً إن كانت هذه الرقميّة تقدّم فناً للكثرة أم للنخبة. كما تفتح باباً آخر على بحث علاقة المتلقي بتقنية اللوحة، ومدرستها، إذا اعتبرنا الطباعة الرقمية مدرسةً من مدارس الفن المعاصر.
أسئلة كهذة وأكثر، سترافق مَن يتأمّل مجموعة شارل قرم «الحياة بالألوان» التي تضم 18 عملاً فنياً تُعرض في «غاليري جانين ربيز» (الروشة). وإن كانت عناوين اللوحات كثيراً ما توحي بمضامين تقليديّة، فإنّ الجديد هو تقنيّة هذه اللوحات التي ربما يكون قرم من أوائل مَن استخدمها على النطاق العربيالتقنية هي الـ«جيكليه»، والتعبير مشتقّ من الكلمة الفرنسية Gicler، ويشير إلى نفور السائل ليرشّ مساحة ما أو يلطّخها. أمّا فنياً، فالجيكليه هو أسلوب الطباعة باستخدام أحبار معيّنة، وطابعات تعمل على طريقة CMYK أي الطباعة من خلال عكس الحقيقة القائلة إنّ الأبيض هو الألوان كلّها والأسود هو غياب اللون. هكذا، تستخدم تقنية الجيكليه الأبيض كخلفيّة دائمة، بينما يُنتج الأسود بمزج الأحبار الملونة التي تُرشّ من خلال الطابعة. وفي الطباعة «الجيكليه»، ليس ثمة شاشة أثناء التنفيذ لترى النتيجة، فالأمر أشبه بتنفيذ لوحة غير مرئية. هذه التقنية قدّمها لأول مرّة الفنان الأميركي والمصوّر جاك دوغان (1991) واستخدم مصطلح «جيكليه» ليحمل المعنى التشكيلي الذي نرى نموذجاً عنه في أعمال قرم.
لكنّ الفرق واضح بين أعمال الفنان اللبناني الشاب وروّاد هذا الفن الحديث جداً. رغم جماليات البناء التشكيلي التجريبي في لوحة قرم (1974)، إلا أنّ هذا المقارنة لن تكون لمصلحته إذا اعتُبرت المقارنة وسيلةً من وسائل قراءة جودة الفن. في أعمال دوغان مثلاً، تجد استخداماً مبهراً لتقنية الطباعة لإنتاج لوحة/ صورة ذات معالم واضحة بعيدة عن البهرجة اللونية الحاضرة في الأعمال التي نتناولها، وهي ليست صفة تحمل معنى سلبياً. يقول قرم: «لا تفسير عندي لمّا يؤثر أو لا يؤثر في عملي. حاولت أن أتبع إحساسي الفنّي، على أمل أن يلقى حدسي صدى عند الآخرين».
أمام هذه اللوحات نسأل أنفسنا: ماذا يلزم، إضافة إلى إجادة التقنية وضغط مجموعة من الأزرار، كي يصير ما نراه فناً؟ في الحقيقة، ليس ثمة إجابة محددة. وانتساب الفن إلى هذا النوع من التقنيات، بل هو استخدام للوسائل الجديدة لتثوير عالم الفنون الجميلة وجرّ التكنولوجيا إلى منطقة الجمال والعكس.
كثيراً ما تشبه لوحة قرم إنتاج القماش. وباستخدامه ورق الكانفاس ـــــ رغم إمكان استعمال أنواع أخرى متعددة وأقل كلفة ـــــ يكون الفنان قد اختار الاقتراب قدر الإمكان من اللوحة التقليدية. لذلك، تبعث الأعمال على الشعور بالألفة والغرابة في آن معاً. الألفة في النسيج والموضوع، والغرابة في النتيجة التي يصل إليها الفنّان، وتذكّرنا أحياناً بمشاهد من أفلام الخيال العلمي. ويختصر تجربته قائلاً: «هذه النتيجة هي سعي إلى الجمع بين الصورة الفوتوغرافية والعمل الفني الرقمي والرسم بالألوان».
لننظر إلى لوحة «الأفضل والأسوأ» باللونين الغامقين النيلي والنحاسي مع قليل من البنفسجي: هناك ما يوحي بأن للوّحة ملمساً شمعياً، وهو انطباع لا واعٍ وغير صحيح، لكنّ حالة ذوبان «الأفضل والأسوأ» كانت موحية وقويّة إلى هذا الحد! الألوان نفسها تتكرر في لوحة «بين الأيام» التي تبدو كأنّها مقطع عرضي من اللوحة الأمّ «الأفضل والأسوأ».
توهُّم الملمس البصري يتجدّد مع عمل «أثر الفراشة». هناك إحساس باللزوجة، وبأنّ العناصر اللامعة مغسولة بالنّدى، يزيده اللون الأحمر الكرزي والأصفر الهلامي والأزرق المائي والأخضر العشبي، ربما تكون هذه أجمل لوحات المعرض.
ويمكن قراءة مجموعة «الحياة بالألوان» بتقسيمها إلى ثلاثة محاور: الأول يستند إلى تقديم المشهد كصورة سيئة الإضاءة أُخذت عن قرب، مثل لوحة «تسوّق حتى تسقط ميتاً» وفيها صخب ضوئي يذكّر بعالم الأسواق والمتاجر الكبيرة. وثمة اهتزاز في حركة اللون كأنه مشهد ملتقط من سيارة مسرعة. الثاني يقترب من رصد المشاهد الطبيعية عن قرب مثل لوحة «أثر الفراشة». والثالث أقرب إلى مفاهيم تجريدية وتعبير عن أفكار مثل «بنادق وورود» أو «بالذهب نثق» أو «لون المال» وهو البترولي طبعاً.
ومهما حاول المرء تقريب صورة هذا الفن لمن لم يرَه، فإنّه في نهاية المطاف سيقدّم صورة ناقصة. لن ينقل الكلام عن الفنّ الإحساس الذي يصفه الفنان بقوله «هذه اللوحات هي الكتب التي لم أقرأ، الكلمات التي لم أقل، والمسارات التي لم أتّبع. إنّها الأحلام التي أقدّمها عوضاً من كل ذلك».


حتى 29 نيسان (أبريل) الحالي ــــ «غاليري جانين ربيز» (الروشة، بيروت): 01/868290