تبدو أزمة «البديل» إعادة إنتاج للمشكلة اليساريّة المزمنة: المسافة بين النظرية والواقع. الصحيفة المصريّة ستتوقف عن الصدور اليومي بعد مشاكل مالية أجبرتها على إغلاق مكاتبها... وحدها الصحف الخاصة عرفت من أين تؤكل الكتف!

محمد خير
يحتاج الاستقلال الفكري إلى أفكار لا تنضب. أمّا الاستقلال الاقتصادي فيحتاج إلى موارد لا تنضب. ربما كانت تلك مشكلة صحيفة «البديل»، أوّل يوميّة يساريّة مصرية، أعلنت أخيراً توقّف إصدارها اليومي وتحوّلها إلى صحيفة أسبوعية بدءاً من 5 أيار (مايو) المقبل، وسط مخاوف من قدرتها على الاستمرار في الحالتين.
عندما تختلط الأفكار بالسوق، يسهل التشويش، مثلاً: «البديل» اليسارية دفعت ثمن أزمة «الرأسمالية»! مفارقة لا يمكن تجاهل جاذبيتها، لكن إلى أي حد هي صحيحة فعلاً؟ ينطبق الأمر نفسه على الزجّ بمشكلة «البديل» في سياق أزمة الصحافة الورقية في العالم. لكن مرة أخرى: هل يرتبط الاقتصاد المصري إلى هذا الحدّ بالاقتصاد العالمي؟ الواقع أنّ الصحافة الورقية في مصر لا تزال مزدهرة، وكل يوم تتأسّس إصدارات جديدة آخرها جريدة «الشروق».
تبدو «البديل» وأزمتها، إعادة إنتاج للمشكلة اليسارية المزمنة: المسافة بين النظرية والواقع. وهي مسافة تتجاوز الخلاف على مشكلات إدارية معينة، أو وجهات نظر في الأسلوب التحريري للصحيفة. إنّه الصوت اليساري الرصين وقد نزل إلى ضجيج الشارع... فكم عابر سبيل سيترك لقمته ويجلس لفهم «جذور» مشاكله؟ من المعروف أنّك مهما كنت متعاطفاً مع الأميين، فهم لن يستطيعوا قراءة مقالك المتعاطف.
تأسّست «البديل» (تمويلاً وصحافة) على يد يساريين وطنيين، أبدوا استعداداً نادراً لوضع المال والجهد في خدمة الحلم القديم: صحيفة يسارية يومية تنافس وتجتذب قراءً ومؤيدين، بعيداً عن الحجرات الضيقة ومقاهي المثقفين. ولأنّهم أرادوا طرح نموذج «مختلف ومتسق مع ذاته»، بدأوا بمراعاة حقوق العاملين في الجريدة. منذ اليوم الأول، تقرر منح أجور جيدة، حتى للمتدرّبين، فاقت أجور صحافيين في جرائد منافسة أكثر توزيعاً بكثير. بل حُدّدت الأجور بناءً على سنوات الخبرة. ثم التزمت الجريدة بالتعاقد مع عشرات المحررين في زمن قياسي، ورشحتهم لعضوية نقابة الصحافيين. كل تلك الإجراءات التي لا شك في نزاهتها، وضعت على عاتق الميزانية أحمالاً لم تتسق أبداً مع المدخول. ثم برزت مرة أخرى قضية الاستقلالية، فتلك تعني سياسة تحريرية لا تضع في بالها المواءمات السياسية. وبوصفها يسارية، فهي تنحاز للطبقات العاملة. ما يعني أنّها، بالبديهة، ليست جريدة مفضَّلة لرجال الأعمال الذين تصنع لهم تلك الطبقات «فائض القيمة». وبالتالي لا يحتاج الأمر إلى ضغط حكومي أو مؤامرة كي يمتنع «الرأسماليون» عن منح «الإعلانات» لجريدة «تفضح استغلالهم للعمال». ومن المعروف أنّه لا يمكن لجريدة الاستمرار من دون إعلانات، إلا في حالة زيادة هائلة في التوزيع مع ميزانية مضغوطة جداً. وهي معادلة لم تتوافر في أي مكان باستثناء صحيفة «الدستور» المستقلة.
رغم التوزيع المحدود لـ«البديل»، إلا أنّ «التأثير» قضية أخرى. التعبير، الصارم والنقي، عن تيار فكري رئيسي، جعل للصحيفة تأثيراً ومنحها اهتماماً فاق بكثير أرقام توزيعها، ووضعها في بؤرة الاهتمام السياسي مع صحف أخرى أكثر توزيعاً بكثير، كـ«المصري اليوم» و«الدستور». لكن ذلك الاهتمام لم يكن كافياً لانتشال الصحيفة من عثراتها المادية، لأنه لم يترجم إلى كتلة قارئة وحاضنة تلتزم الشراء اليومي للجريدة. ومع أنّ الصحف المستقلة في مصر تشهد رواجاً أخيراً، إلا أنّه رواج لم يزد من حجم السوق، بل كان مجرد إعادة توزيع لكتلة القراء نفسها.
هكذا، فأرقام التوزيع الإيجابية للصحف الخاصة والمستقلة، جاءت خصماً من قراء الصحف الحكومية، لا كسباً لشرائح جديدة. وقد استطاعت الصحف الخاصة تجاوز معضلات الطباعة والتوزيع، اللتين تتحكم بهما المؤسسات الحكومية، بفضل تعلية سقفها السياسي، وهو ما فعلته «البديل» أيضاً. لكن الصحيفة اليسارية كانت محددة بسقف آخر، هو الأيديولوجيا. وعندما يكون السقف «يساريّاً»، فإنه لا يصبح «مربحاً» بالطبع! وخصوصاً أنّ اليساري تحديداً، يفترض أن يكون ضد «الأيديولوجيا» بوصفها مرض التبرير الاجتماعي.
ما الذي كان يبرر قلة قراء «البديل» مقارنة بنظيرتها اليسارية الأسبوعية «الأهالي» في عصرها الذهبي، عندما كانت توزع قبل ثلاثين عاماً، أكثر من مئة ألف نسخة؟ النجاح المدوي لـ«الأهالي» آنذاك، كان بسبب «انفرادها» بمعارضة شرسة لسياسات السادات الذي بادلها هجومها باعتقال كتّابها ومصادرة مطابعها. لم يكن نجاح «الأهالي» بسبب «يساريّتها». والدليل أنّ الكتلة التي كانت تشتريها، انتقلت بعد سنوات لشراء صحيفة «الوفد» التي بلغ توزيعها في الثمانينيات أرقاماً قياسية. وهي كما هو معروف صحيفة الليبرالية المصرية، المعادية قطعاً لليسار. ثم انتقلت الكتلة الجماهيرية نفسها، إبان الصراع الشرس بين الدولة والجماعات الإسلامية في التسعينيات، إلى جانب ثالث، لتصبح جريدة «الشعب» الإسلامية الأكثر توزيعاً قبل أن تتوقّف في 2000.
كانت «الأهالي»، ولا تزال، تصدر عن حزب «التجمع اليساري»، و«الوفد» عن حزب «الوفد» الليبرالي، و«الشعب» عن حزب «العمل» الذي كان يعبر عن جماعة الإخوان. أما اليوم، فلم تعد السوق، في أي مكان، تستوعب صحف الأحزاب أو الحكومات. تقلص النوعان لمصلحة الصحف الخاصة التي تمتلك خفّة التعبير عن تيّار عام والانتقال بين فئات اجتماعية متعددة، وقد تفرَّق دم «البديل» بين فئتين: فئة البسطاء الذين لا يقدرون على شراء الصحف، وفئة المثقفين الذين هم آخر من يشتري الصحف!