التنوّع والتحرّر لوناً وشكلاً، والبحث الدائم عمّا يهب سطح اللوحة مساحةً أكبر للنص... هكذا تلقّفت الفنّانة تجربة مواطنها الشعريّة. «نزوة الملاك» محطة جديدة في مسار «النصّ المشترك»
المنامة ـــ جعفر العلوي
لا تَخرج أعمال لبنى الأمين الحاليّة عن نطاق اشتغالاتها الفنيّة التحديثيّة، انطلاقاً من الخشب والورق واللون. خامات تحضر في معرضها «نزوة الملاك» الذي تستضيفه حالياً في «غاليري البارح» في المنامة. هنا، تخوض التشكيلية البحرينية أوّل تجربة مشتركة لها مع قاسم حداد في حواريّة بصريّة شعرية تجمع بين تشكيلاتها ونصوص الشاعر البحريني.
البحرين ليست المحطة الأولى لمجموعة الأعمال التي نفّذتها لبنى تقاطعاً مع تجربة حداد في ديوانه الأخير «دع الملاك». المعرض الذي افتُتح في برلين، سينتقل إلى باريس في أيار (مايو) المقبل. تذهب لبنى إلى معرضها بعد اشتغالات مع الخشب كخامة منفردة. لذلك لا يبدو أنها قادرة على التخلّص من شغفها. يظهر ذلك في أعمالها التي تُبرز نتوءاتها إلى السطح. ورغم أنّ لبنى تشتغل هنا، بألوان الإكريليك، على خامات متعددة، من الورق والخشب والقماش... فإنّ طابعاً مشتركاً يجمع اللوحات: إنّه اللون الذي يقودنا إلى عالم الفنانة، من خلاله تبني بشكل مدروس ومتماسك وحميم علاقتها مع المتلقي.
التنوع الناتج من طبيعة اشتغالها الفني المتحرّر لوناً وشكلاً، ومن بحثها الدائم عمّا يهب سطحها مساحةً أكبر للنص، جعل لوحة الأمين أكثر قدرة على التماهي والانسياب مع التجربة الشعرية. وقد عملت الفنّانة على المشروع بعد حوارات ومراسلات جرت بينها وبين الشاعر البحريني حول نصوص له تناولت ثلاث مدن: برلين وباريس والمنامة. وقد استطاع قاسم حداد، من خلال هذه المراسلات، أن يشرّع تجربته على مشاغل لبنى ومفرداتها وانشغالاتها البصريّة. وكان حداد لصيقاً بالأعمال الفنية إلى حدّ مشاركته في إضافة نصوصه إلى لوحاتها بخطّ يده، من هنا وصفه المعرض بـ «النص المشترك».
وهذا الالتصاق هيّأ الفنانة لفتح مناخات لوحتها على أفكار التشظي والانطلاق التي يبزرها الشاعر في ديوانه «دع الملاك»، لتصبح جزءاً من مكوّنات لوحتها. هكذا يحضر «الملاك» في تجربة الاثنين حضوراً مغايراً. إذ يعيدان معاً إنتاج صورة مختلفة عن المرجع المقدّس: صورة متحرّرة من الطقس الديني تنحو أكثر صوب إطلاق جناحي هذا الملاك. في نصّ قاسم حداد: «دع الملاك يتولاك كلما هممت أن تنهل القدحَ المكنوز بنسيان العنب، دعه، يعرف المسافة بين شفرة الزجاج وشفتين مصقولتين بالولع، سترى كيف يكون الترنحُ بهياً برفقة ملاك». وفي أعمال لبنى الأمين التي تجيِّر ألوانها لصالح فكرة الفضاء المفتوح كما في لوحة «طيش القناني» أو «ماذا أفعل بكل هذا النبيذ».
يغيب المكوِّن الحسي للشكل في اللوحة، إلا في عدد قليل من الأعمال. لكنّ لبنى لا تنسى أن تضيف دلالة المفردة الشعرية عبر ضربات الفرشاة، أو تقاطع الخطوط، أو حتى من خلال انشغالها بهاجس اللون الذي بدا واضحاً في طريقة صياغة الأعمال. ما يبيّن قدرة الشاعر على استثارتها مع كل إضافة شعرية، لتعيد بناء اللوحة تراكمياً لجهة الألوان المتداخلة بعضها في بعضها الآخر. وتحضر في لوحتها فكرة البناء الشعري للقصيدة، فتتعامل لبنى مع اللوحة بطريقة البناء المتداخل على السطح الذي يعطي لكل أجزاء اللوحة/ مفردات النص، طريقةً مغايرةً في البروز على السطح.
التجربة ليست الأولى لقاسم حداد. لكن هنا، «اقتربت الكتابة من اللوحة بصرياً بحيث أصبح علينا أن نصغي للوحة بوصفها نصاً مشتركاً، أو حواراً يجري أمامنا ونترك لأنفسنا حرية التأمل فيه في مختلف المستويات الحسيّة والمجرّدة. الرسم كإبداع، ليس قراءة للنص من الخارج، بل قرين له... ولوج حنونٌ إلى دواخله».
تتقاطع التجربتان إذاً عند لحظة التجلّي. يدخل المتلقّي إلى بواطن الرؤيا الشعريّة، عبر العوالم التي تجهد الفنانة في إظهارها من خلال طاقة اللون... تاركةً للشاعر أن يحتلّ الفضاء بتقاسيم نصّه. ألم يقل المعلّم الإسباني خوان ميرو يوماً إنّه «ما من فرق بين الشعر والرسم»؟