صانعة المطربين بطلة تراجيديّة من زمن آخر

قبل أسابيع، صمتت بديعة صبرا ابنة مؤسّس «الكونسرفاتوار الوطني اللبناني»، في عزلتها القسريّة. قلّة سمعت بهذه الفنّانة الاستثنائيّة التي علّمت فيروز الغناء، ثم مضت في جوّ من اللامبالاة ونكران الجميل. أستاذة الأداء الأوبرالي تشبه بطلاتها: لقد قبعت في الظلّ طوال حياتها، وقفت وراء نجاح الآخرين، وحصدت الحسرة. لكنها بقيت تخدم الفنّ الراقي حتى آخر يوم من حياتها

زينب مرعي
اتّصلت غادة غانم بأستاذتها قبل أسبوع من وفاتها، تسأل عن الأحوال. قالت لها بديعة صبرا على الهاتف: «أنا متضايقة من الحياة. ما فيني شوف حدا». وما هي إلّا أيّام حتّى استراحت نهائيّاً من كل هذا التعب: كان ذلك في في 25 كانون الثاني (يناير) الماضي. رئيسة فرع الغناء الأوبرالي في «الكونسرفاتوار الوطني اللبناني» من 1972 حتى 1987، وأستاذة الغناء في «جامعة الروح القدس ــــ الكسليك»، كانت كلّما قامت بجردة حياتها شعرت بالمرارة، وابتلعت حسرتها مما آل إليه مصيرها في لبنان. من كان يتصوّر أن بلدها، بعد تاريخ حافل بالعطاء، سيُسكنها في النهاية مأوى النسيان؟ كانت لا تستطيع، هي، أن تترك الكونسرفاتوار، لكنّها في السنوات الأخيرة، باتت تحثّ تلامذتها المتفوّقين على الهجرة، لأنّ هذا البلد لن يوفيهم حقّهم. كأنّها كانت تعرف...
قصّة بديعة صبرا أشبه بأفلام السينما. إلّا أنّك لن تجد ــــ ولو شذرةً واحدةً ــــ من قصتها عند تلامذتها. حتى أولئك الذين كانوا يتردّدون على منزلها المتواضع في منطقة بدارو، لا يعرفون غير «مدام بديعة»، ابنة الموسيقي وملحن النشيد الوطني اللبناني وديع صبرا، والأستاذة المتفانية والكتومة. أمّا حياتها الخاصة، فلا يمكن استقاؤها سوى من زوجها أستاذ الموسيقى ميشال حدّاد، ومن قصاصات الجرائد التي يحتفظ بها في مجلّد خاص يضمّ كلّ ما كُتِب عن زوجته، ومن ورقة مطبوعة على «الدكتيلو»، أعدّتها قديماً بديعة صبرا للصحافة، وخطّت عليها المحطّات المهمّة في حياتها. تبدأ القصة مع ولادة وديعة الأشقر في عام 1923 من عائلة فقيرة، في بلدة قرنايل (المتن الأعلى). العائلة الغارقة في الفقر مع 12 ولداً، ستُعطي طفلتها ذات الأربع سنوات لوديع صبرا العائد حديثاً من فرنسا إلى لبنان. تبنّى وديع صبرا وزوجته أديل مسك الطفلة رسمياً في المحكمة الدينيّة، وغيّر الوالد الجديد اسمها إلى بديعة صبرا. لم يكن أحد يعرف أنّ الطفلة متبناة. هي كانت «ابنة أبيها»، تنتظر أن يخرج ذووها من المنزل لتمرّن صوتها وتتمرّن على عزف البيانو وتفاجئهما لدى عودتهما بما تعلّمته.
في 1929، أسّس وديع صبرا المدرسة الوطنيّة للموسيقى في منطقة زقاق البلاط، ثمّ تحوّلت إلى «الكونسرفاتوار الوطني»، بموجب المرسوم رقم 4621 الموقّع من الرئيس شارل دبّاس، وعيّن الفنّان المؤسِّس مديراً له. في 1942، أصبحت بديعة «رسمياً» تلميذة في الكونسرفاتوار، مع أنّها لم تحتج يوماً إلى صفة لدخوله بما أنّه كان بمثابة بيتها الثاني. سرعان ما سيصدح صوتها الـ Soprano dramatique مصحوباً بعزف بيلانج ــــ قائد الـ Imperial Russian Orchestra ــــ على البيانو. يقول ميشال حدّاد: «يومها، كان معظم أساتذة الكونسرفاتوار من الأجانب وتحديداً من الموسيقيين الروس، الفارّين من الثورة البولشفيّة».
كتبت بديعة صبرا على ورقتها بأنّها نالت العديد من الميداليات خلال دراستها، منها الجائزة الأولى في الغناء عام 1946، والميدالية الأولى في المواد الموسيقيّة النظريّة عام 1948. ومن الأدوار التي أدّتها وتذكرها في أوراقها، دور فيوليتا في أوبرا «لا ترافياتا» لفيردي، عام 1956 بحضور الرئيس اللبناني حينها كميل شمعون. كما كرّمها لاحقاً الرئيس أمين الجميّل عام 1987 بمنحها وسام الاستحقاق. غنّت بديعة أيضاً من أشعار الشاعر السوري خليل مردم بك، وكذلك شبلي ملّاط، إضافةً إلى موشّحات من تأليف والدها. وبعدما لفتت الأنظار بموهبتها ، قدّمت إليها بعثة إيطاليّة منحة لأربعة أشهر في البندقيّة. ثمّ عادت إلى بلاد فيردي وبوتشيني، فأقامت بين روما وميلانو. هناك، درست بديعة على يد أهم المغنّين الإيطاليين، وغنّت في «الإذاعة الإيطاليّة» مقطوعات شرقيّة وغربيّة. تعبّر صبرا عن فرحتها في هذه الرحلة في La Revue du Liban قائلةً: «في إيطاليا الأمر مختلف. هناك أنت تتنشّق الفنّ مع الهواء».
في البندقية/ فينيسيا، كان أستاذها يتركها تحلّ مكانه بكلّ رحابة صدر، ويسند إليها دوماً دور الأستاذ. هذا الدور الذي اختارته لنفسها منذ 1951، أي قبل سنتين من رحلتها إلى إيطاليا، تكرَّس بعد عودتها، فبقيت حتى آخر يوم من حياتها تعلّم الغناء وتخرّج مغنّين محترفين. في التعليم، لم تكن متساهلة أبداً. كان على تلامذتها أن يعملوا بكدّ ولم تكن لترضى إلّا بأن يكونوا من الصفّ الأول. تمرّنت عندها فيروز، ماجدة الرومي، جوليا بطرس، غسان صليبا، ماري سليمان وغيرهم... وكان من تلامذتها في الكونسرفاتوار رونزا، غادة غانم وماري محفوظ... قبل رحيلها كانت لا تزال تمارس دورها وتعلّم مي نصر وعفاف الياس، آخر تلميذتين لديها. ومن التفاصيل الطريفة أنّها كانت تجندهما لاستعطاف زوجها كي يدعها تواصل التعليم، فيما كان الأخير يصرّ على أن تستريح بديعة أخيراً.
إحدى تلميذاتها، الفنّانة رونزا، تستعيدها اليوم باحترام وأسى: «امرأة لديها شغف بالتعليم... كنّا نرى فيها صور الأم القاسية والحنون في آن واحد... تمدحنا عند الضرورة، وتنتقدنا عندما لا نكون عند المستوى الذي تريده لنا». أمّا المغنيّة المميّزة غادة غانم، التي كانت وراء استعادتنا لذكرى هذه الفنّانة الكبيرة، فتقول بصوت يغشاه الحزن: «بدأت أتعلّم معها في منتصف الحرب اللبنانيّة تقريباً. لم تكن تقبل تعليق الدروس لأي سبب كان. كلّما تعذّر عليّ الوصول إلى الكونسرفاتوار، كانت تعطيني الدرس في بيتها وتطلب منّي المجيء بين الثالثة والرابعة ظهراً، الوقت الذي يغفو فيه القنّاص»!

عن الموت قهراً في بلد يحتقر مبدعيه


مع ميشال حدّاد، زوج الراحلة بديعة صبرا، نستعبد أسماء تلامذتها القدامى الذين أصبحوا مطربي أوبرا عالميين. يذكر مثلاً «غربيس بوياجيان الذي غنّى في الـ «متروبوليتان أوبرا» في نيويورك، وسونيا غزاريان التي بقيت لسنوات مغنيّة الأوبرا الأولى في فيينا».
في صمت ميشال حدّاد وتكتّمها هي، كان يشعر بعض تلامذتها بأنّ بديعة تعيش في زمن آخر، وبأنّ شيئاً ما حدث في ذاك الزمن. كانت مسكونة بحزن لا يعرفون سببه. مع موت والدها عام 1952، بدأ العالم الجميل الذي كانت تعيش فيه بديعة صبرا ينهار شيئاً فشيئاً. يروي ميشال حدّاد القصّة: «قبل موته، طلب وديع صبرا من ابنته بديعة أن تحفظ إرثه الفنّي، وتحافظ على كلّ مؤلفاته الموسيقيّة. لكن بديعة رفضت البقاء في منزل أمّها أديل مسك، بعد زواجنا، فقرّرت هذه الأخيرة الانتقام بحرمانها إرث أبيها».
يصف حداد أديل مسك كأنّها كانت «زوجة أب» أكثر منها أماً لبديعة. إذ قرّرت مسك التصرّف هي بإرث صبرا، فأعطت جزءاً من مؤلّفاته إلى ابن أختها الطبيب، وجزءاً آخر للكونسرفاتوار. يضيف حدّاد: «سمعنا بعدها أنّ الجزء الذي حصل عليه ابن أخت مسك اختفى في حريق شبّ في المستشفى الذي يعمل فيه، حيث كان يحتفظ بالوثائق والتحف والتسجيلات الثمينة تلك». أمّا الجزء الذي حصل عليه الكونسرفاتوار، فتروي بديعة بنفسها ما حصل له في La Revue du Liban (1977): «لا أستطيع أن أتذكّر إلّا بحزن عميق اللّحظة التي وجدت فيها أعمال والدي مرميّةً في سلّة المهملات في الكونسرفاتوار». ويضيف حدّاد إنّها «جمعت باقي الأوراق من على الدرج، من تحت أقدام التلامذة. كما ضاعت مع تراث صبرا الموسيقي آلتان أو ثلاث آلات موسيقيّة، كان قد صنعها بنفسه من خلال مراسلاته مع الموسيقيين في الخارج، وبورتريه له رسمه عمر الأنسي، جرّاء إهمال الكونسرفاتوار لها».
هكذا وبعد محو كل أثر للأب، مؤسّس الكونسرفاتوار الوطني، كان الهدف الثاني الابنة على حدّ قول ميشال حداد. في عام 1987، بلغت بديعة صبرا سنّ التقاعد، إلّا أنّها لم تكن تريد أن تترك الكونسرفاتوار كما يقول زوجها: «وكان يحق لها بالتجديد لأنه لم يكن هناك قانون يلزمها بترك العمل. لكنّ الإدارة الجديدة للمعهد الموسيقي العتيد، رفضت التجديد لها، وأصرّت على نفيها في بيتها. كانوا يزعجونها كثيراً، لأنّها تريد المحافظة على مستوى معيّن ولم يكن يرضيها أن تجعل أياً كان ينجح كيفما اتفق، فأصّروا على إبعادها». هكذا نكتشف بعض ملامح المأساة بعد رحيل بطلتها: فنّانة أخرى ماتت قهراً في لبنان، بلد المحسوبيات والمؤسسات التي تحتقر المبدعين الكبار.