مخرجون شباب يخترقون المحظور الديني والسياسيزياد عبدالله
فوجئ جمهور «مهرجان الخليج السينمائي» الأخير، بكثافة الحضور السعودي، وبزخم التجارب المغايرة الآتية من المملكة وتنوّعها. وإذا كانت المشاغل الأسلوبيّة والشكليّة واضحة للعيان غالباً، فإن ما يصفع حقّاً هو الجرأة النقديّة في معظم الأفلام السعوديّة القصيرة التي شاهدناها خلال الدورة الثانية من المهرجان الذي استضافته دبي أخيراً... مثّلت الأعمال علامات واضحة للصدام الحقيقي الذي يعيشه المجتمع السعودي، بين انفتاح وانغلاق. وتميّزت بإصرارها على فضح المستور، ونقد المؤسسة الدينية، ورصد تشوّهات الحياة الاجتماعية أحياناً.
في «حسب التوقيت المحلي» (5 دقائق)، قدّم محمد الخليف قصّة شاب جائع يبحث عن مطعم في الرياض خلال وقت قارب صلاة العصر. نمضي معه من مطعم إلى آخر، حيث يلقى دوماً الإجابة نفسها: «إنّه وقت الصلاة». وحين نصل إلى النهاية، يتوسّل الممثل إلى المخرج ألّا ينهي الشريط ويتركه جائعاً... فتكون إجابة المخرج: «إنّه وقت الصلاة». وينتهي الفيلم على أذان منفّر يرتفع مع «تترات النهاية»، وصوت مؤذن أقلّ ما يوصف بأنّه «نشاز». ويأتي شريط حسام الحلوة الكوميدي «مابي» (3 دقائق)، ليرصد المواجهة الدائمة بين الحداثة والتقليدية في المملكة. نشاهد مجموعة شبّان جالسين بزيّهم التقليدي وعلى مسافة منهم، شابّ بزيّ عصري «كوول» يجلس إلى كرسي وحيداً. وسرعان ما يأتي شخص مرتدياً الزيّ التقليدي ليأخذ منه الكرسي، فيبقى الشاب بلا مقعد كما لو أنّه ملفوظ من المجتمع. وعندما يعجز عن إيجاد كرسي، يتبرّز أمام الجميع فيهربون تاركين له الكراسيويرصد شريط محمد الظاهري «شروق/ غروب» حياة مراهق سعودي، فاذا بنا أمام فتى يتعرّض لشتى أنواع القمع والامتهان. في ثاني لقطات الفيلم، نجد الشاب منحشراً في زاوية حمام بيته القذر... ثم يذهب ليشارك ذويه فطورهم على خلفيّة الآيات القرآنيّة الخارجة من «الراديو»... ثم يذهب إلى المدرسة التي لا يفعل فيها المعلم شيئاً إلا التحفيظ والتلقين وضرب الطلبة. وهم لا يفعلون شيئاً سوى تبادل الصور الإباحية والتبوّل في المغاسل كمساحة التمرد الوحيدة المتاحة لهم. لن تكون حياة المراهق أفضل حالاً خارج المؤسسة التربويّة. إذ إنّه يعمل بائعاً عند إشارة ضوئية. وهناك، يتعرّض للاغتصاب... وبذلك سيقودنا الظاهري إلى مقاربة آلة قمعية أخرى تتمثل في هيئة «المعروف» التي تلقي القبض على الفتى من دون اعتقال المغتصب! هكذا، يستكمل الفيلم ثالوث القمع الذي يحاصر الفتى: قمع اجتماعي وتعليمي وديني.
وفي رصد آخر للواقع الاجتماعي السعودي، قدّم سمير عارف «عيون بلا روح»، في قالب مدوِّخ سخّر فيه اهتزازت الكاميرا لخدمة التلصّص وإضاءة حياة البشر وأفعالهم عندما تغافلهم الكاميرا. نحن برفقة شاب يخرج من متجر ويستقلّ سيارة. كل ما يظهر على الشاشة يرتجف ويهتزّ، ولا يهدأ حتى يضع الشاب ما اشتراه من المتجر على المقعد الخلفي من السيّارة. وتكون الهدية هي نفسها الكاميرا التي يصوّر بها الفيلم. هكذا، سنمضي في رحلة قصيرة تضيء لنا عالم كل شخص على حدة، ما دامت الكاميرا ترافقه من دون أن يعرف. يلتقي الشاب فتاةً تعرّف إليها عبر الإنترنت وتستقبل هديته التي هي الكاميرا التي تنتقل إلى والدها ثم أخيها... لنرى عوالمهم الخفية التي تتناقض مع الصورة التي يقدّمونها عن أنفسهم في المجتمع.
فيلم عبد المحسن الضبعان «ثلاثة رجال وامرأة» يحكي كيفيّة صناعة فيلم في السعودية، ويضيء على نقاش بين المخرج والكاتب والممثل يتجسّد كوميدياً بأسئلة من قبيل: كيف يمكن رواية قصّة حب؟ وكيف يمكن إظهار امرأة؟ وضرورة «السكس» في الفيلم، وغير ذلك مما يرصد الواقع الرقابي الذي يواجهه السينمائي السعودي في قالب مضحك.
وحضرت أسماء مثل ريم البيات التي قدّمت «ظلال» بالإنكليزية، ورصدت فيه الفقدان الذي يهيمن على رجل غابت امرأته، فتوقّف الزمن ولم يجد إلا الظلال تحاصره، ثم ينتحر في تناغم بين موسيقى أنور ابراهم، وشعرية ما يردّده ذاك الرجل، وإحالته على الرقص والألوان.
وفي إصرار على الرمزية، جاء شريط حمزة طرزان «شباك» ليرينا امرأة مقعدة ــــ رغم أنّها قادرة على المشي ــــ تمضي يومها أمام النافذة تخلق أوهامها. في النهاية، نكتشف أنّها حبيسة أربعة جدران، وأنّ النافذة هي من نسج خيالها وكل المشاهد آتية من توقها إلى حرية مفقودة. تلك الرمزية ستكون مباشرة في فيلم مجمد الحمود «ظل» حيث نشاهد حياة امرأتين داخل البيت، ثم ارتداء إحداهما النقاب قبل خروجها على خلفية موسيقى حزينة.
السينمائيون السعوديّون باتوا يمثّلون اليوم حالة حقيقيّة، تتخطّى ظاهرة نظرائهم الروائيين الذين اجتاحوا المشهد في السنوات الأخيرة. إنّهم يؤسّسون لحركة «عصيان ثقافي» كسرت محظورات ومحرّمات كثيرة تقف في وجه الفنّ السابع، ومختلف الفنون البصريّة والمشهديّة التي تدور حول الجسد، في بلد عربي كبير، متمكّن ماديّاً، ونخبه مرتبطة أكثر فأكثر بزمنها وعصرها عبر العالم، لكنّه لا يزال خالياً من دور العرض.