ما زالت دافئة وكريمة ولائقة وجميلة، تماماً كزمنها. أطلّت متألقة، فبدا الماضي حاضراً. على شرفة منزلها المطّل على البحر في منطقة الجناح، منحتنا «السيدة» الفنانة نجاح سلام (1931) بعض وقتها وكل أنسها. هي المعتكفة حالياً مع عائلتها ترفض مغادرة سكنها. تشتكي الرداءة الفنية والسياسية والاجتماعية وغياب القيم والمبادئ، وتشتكي بضحكة لطيفة تلاعُب “الضغط” عندها: «ضغطي قليل الأدب بيضّل يلعب».
ما زالت الفنانة الكبيرة حاضرة الذهن. استرجعت بدايات متفرّقة من انشغالها بالعمل الفني. بدايات لم تكن سهلة، لا سيما أنّها من بيت عرف بتدّينه وانفتاحه في آونة واحدة: «عبد الرحمن جدّي كانت لفّتو هلقد. والدي محيي الدين كان متديناً أيضاً، لكن عملهُ كمدير للإذاعة اللبنانية وإشرافه على أصوات جميع المشاهير الذين تسمعينهم الآن في عالم الغناء، كان ربما عاملاً إيجابياً في اشتغالي في الفن رغم الرفض التام بداية. والدتي كانت تمتلك صوتاً جميلاً جداً ولعل السبب في زواجها من والدي هو إجادته العزف على العود. كنت أبلغ أربع سنوات عندما غنيّت “ياما أرّق النسيم” أثناء نوبة دلع، واقفة على طاولة المطبخ بين يدي أمي وجاراتها. في المدرسة، كانت الأناشيد الدينية وتلاوة القرآن تُشكّل لي متنفساً الى الغناء. في الثالثة عشرة، سمعت في بيت عمتي للمرة الأولى قريبتهم (المطربة الكبيرة الراحلة سعاد محمد) وكانت في الخامسة عشرة على ما أذكر تُغنّي “قضيت حياتي”، فبكيت من التأثر. باختصار، حبّ الغناء والموسيقى منذ طفولتي. كنت ما زلت في أشهري الأولى حين كانت أمي تسمعني شريطاً موسيقياً أثناء بكائي، فأهدأ وأستكين. عائلتي معروفة بانتمائها العروبي والوطني. وعندما جاء المندوب السامي لزيارة جدّي الشيخ عبد الرحمن حينها، رفض مقابلته لعلمه ببواطن الأمور وقال لجدتي: قوليلو عبد الرحمن توّفى! نحن عائلة معروفة بكرهها للطائفية، وزوجي الفنان الراحل محمد سلمان كان شيعياً كما تعلمين، وأنا أحبّ السيّد حسن نصر الله كثيراً».
بداياتها الفنية كانت في سوريا، «شأن الكثير من الفنانين والفنانات كفايزة أحمد، وسعاد محمد. أنا أحبّ سوريا كثيراً وأدين بفضلها في إطلاق أغلب المشاهير العرب في مجالي الموسيقى والغناء. أعظم فنّاني لبنان ولدوا فيه، لكنهم عرفوا الشهرة في سوريا. سوريا تُجيد تكريم الفنان ورعايته ودعمه». تصمت قليلاً قبل أن تضيف: «هل رأيت كيف غاب التكريم الحقيقي عن مآتم الكبار الذين رحلوا أخيراً مثل وديع الصافي وصباح؟ إذا كانت الدولة قد كرّمتهم بوضع أوسمة على أضرحتهم بعد مماتهم، فيصّح القول هنا: وما نفع الشاة بعد ذبحها؟». تذهب إلى علاقتها بالفنانين اللبنانيين: «أكنّ حباً كبيراً للفنانة فيروز وحباً أكبر لها كإنسان، فهي لطيفة وكريمة ومهضومة. أما وديع الصافي العملاق، فكانت تربطني به صداقة شخصية، وهو زارني في بيتي قبل رحيله بشهرين وغنّى لي في سهرتنا “يا عصفور” وكان يُسمّيني «وديعة الصفيّة» في عملية تأنيث لاسمه، وهو الذي طلب أن نغني دويتو في مهرجان «نهر الوفا» وغنينا «طلّ القمر ورفيقتي طلّت معه»». تعود إلى الوراء، لتستعيد انطلاقتها الثانية في مصر. يومها، كانت قد أصبحت “معروفة وأمتلك ريبرتواراً من الأغنيات الخاصة بي من مثل «يا جارحة قلبي»، و«ليش بس تشوف عينيي بيرتعش قلبك»، و«حوّل يا غنّام»، و«عا نار قلبي ناطرة المكتوب». حين سمعني فؤاد الأطرش في «كازينو عاليه»، أخبر شقيقه الموسيقار فريد الأطرش عن إعجابه بصوتي، بالإضافة الى تشجيع الموسيقار محمد عبد الوهاب حين زار والدي في الإذاعة اللبنانية وغنيت أمامه من فيلم “لستُ ملاكاً”. المهّم ذهبنا الى مصر بالقطار عن طريق حيفا - فلسطين، وسكنّا في بناية تُشغل الطبقة الأولى منها شركة «نحّاس فيلم».
لسوريا الفضل في إطلاق
أغلب المشاهير العرب
دُعيت الى لعب الدور الأول في الفيلم الذي كانوا بصدده يومها وهو “العيش والملح” (1949). لكن بعد لقطات عدة، اعتذرت عن عدم المشاركة لأن مجريات الفيلم لا تتوافق وطبعي المحافظ. لذا، لعبت الدور الفنانة نعيمة عاكف التي أكنّ لها كل الحب والاحترام. وكان مخرج الفيلم زوجها الفنان حسين فوزي. في رصيدي السينمائي عدد من الأفلام منها “سرّ الهاربة” مع سعاد حسني وكمال الشناوي وشكري سرحان. كما مثلت إلى جانب عدد من النجوم أمثال اسماعيل يس وليلى فوزي. وكانت أغلب هذه الأفلام تعتمد الكوميديا الخفيفة. غنيّت في أهمّ المرابع في مصر كـ «أضواء المدينة»، و«الأندلس»، و«نادي الضباط». في الأخير تحديداً وإثر تأميم قناة السويس، غنيت «يوم النصر عصرنا قلب الإعدا عصر». لفت غنائي الرئيس عبد الناصر ولفتته الحمية العروبية التي أغنّي بها، فسأل إن كنت مصرية. أجابوه بأنني لبنانية. كان حينها الفنان محمد سلمان في مصر وكنت على علاقة به لم تكتمل لأنّ والدي لم يكن قد سمح لنا بالزواج بعد. ولمّا عرف الرئيس عبد الناصر بالأمر، قال لوالدي: “يا أخي لايقين لبعض ما تخليهم يتجوزوا». وهكذا كان. ثم مُنحت لغنائي الوطني الجنسية المصرية. أكنّ لمصر حباً كبيراً من أفضالها عليّ، ومن شعبها الذواق الذي يحترم الفنان والفن».
نجاح سلام التي قدّمت أغنيات أقّل بكثير من قدرات صوتها ورفعته وطلاوته، تُحب صوت سعاد محمد، وتعتبر صوت وداد من أجمل ما خلق الله. تحكي عن زوجها الفنان محمد سليمان الذي أحبت فيه “كرمه. في إحدى الليالي الباردة، كنّا عائدين الى الفندق إثر سهرة طويلة. شاهدنا رجلاً فقيراً يرتجف برداً، فما كان من سلمان إلا أن خلع بدلته (البنطلون والجاكيت). وكان أن صعد الى الغرفة بثيابه الداخلية وسط ذهول الرجل الواقف خلف الكونتوار. أبو سمرة كريم ووطني، وله ابداعات في المجالين كليهما، بالإضافة الى أنني كنت حبه الوحيد».