strong>عبارة متقشّفة ومشغولة تربّت في كنف الخفوتبدأ الشاعر اللبناني خافتاً ومنطوياً على نفسه واستمرّ كذلك. ديوانه الجديد «فضاء حرّ» (دار النهضة) مناسبة للعودة إلى صاحب «نباتٌ آخر للضوء» الذي تليق به صفة الخصوصية والصوت المنفرد. قصيدةٌ ترّبت في الخفية، وعايشت طويلاً عوالم صامتة وظليلة ومكتومة

حسين بن حمزة
«لا أمدحُ البحار/ إنما الملح». لعلّ هذه الاستعارة المستلَّة من ديوان أنطوان أبو زيد الأخير «فضاء حرّ» (دار النهضة)، تلخّص الجزء الأكبر من ممارسة هذا الشاعر الذي صنع لنفسه مساحةً خاصةً ممهورةً بتوقيعه داخل المشهد العام للشعر اللبناني المنجز في العقود الثلاثة الأخيرة. صفة الخصوصية والصوت المنفرد غالباً ما تُلقى جزافاً وبلا تمعّن كافٍ في مدح تجارب شعرية كثيرة. في تجربة أبو زيد، يمكننا أن نلاحظ كم يليق وصفٌ كهذا بتجربة هذا الشاعر الذي بدأ واستمر، خافتاً ومنطوياً على نفسه. كأنّ قصيدته مكتوبة بكلمات أُبطِلَت جَلبتها وضوضاؤها قبل أن تلعب دورها في تأليف عبارة الشاعر التي تربَّت في كنف الخفوت، وقَوِيَ حضورها بسبب صحبتها الطويلة مع عوالم صامتة وظليلة ومكتومة.
منذ بداياته، استأذننا أنطوان أبو زيد في أن يكون معتكفاً، هو وقصيدته، على طريقة النُّسّاك والمتصوفة. ولهذا، لم يكن بلا دلالة أن يصدر باكورته بعنوان محايد وصامت «نباتٌ آخر للضوء» (1986). الحياد والصمت استمرا في العناوين اللاحقة أيضاً: «جسمُ ظلال وخطوات» (1988) ثم «أعمق من الوردة» (1993) ... القصد أنّ قصيدته انشغلت بنفسها، أكثر من احتكاكها بما كان يُكتب في جوارها القريب والبعيد. وبافتراض أنّ هذا الاحتكاك حدث، فلا بدّ من أنّه جرى بشروط قصيدته ومزاجها الخاص. لقد انتمى أبو زيد، مثل كل الشعراء، إلى جيل شعري وبيئة شعرية وحساسية معجمية معينة. لكنّ مجايليه الثمانينيين أنفسهم يعرفون أنّ نصّه ظلّ ملتفاً على عالمه، وبقي على مسافة من تجاربهم. لعلّ هذه المسافة خسّرته أو غيَّبته إلى حد ما عن مجتمعات الشعراء ومكتسباتهم الإعلامية، لكنها حفظت له، وعلى حدة، مكانة راسخةنضيف هنا أن هذه المكانة تحققت شخصياً وشعرياً في آنٍ. انزوى الشاعر بقصيدته الهشة والخافتة، وانزوت هي بصاحبها الهش والخافت. لن نجد ترجمة لهذا التبادل المتناغم أفضل من استعارة فاتنة للشاعر نفسه: «لم يكن للرجل سوى كلمة واحدة/ شقَّها/ ونزل فيها». الشاعر مثل المعنى مدفون وغائر في نبرته، وممزوج بها. ما نقرأه ليس نتاج تفكير محض بالشعر، بل حصيلة تأملٍ وتفلسفٍ وزاوية شخصية للنظر إلى الحياة والكتابة. يستسيغ صاحب «سكنى بين غفلتين» فكرة أنّ نصه يدفع القارئ إلى العثور على إيقاع قراءة مواز للإيقاع التأملي والمتروّي الذي أُنجز وفقه النص: «ما أكتبه ينفصل، بدايةً، عن الخطابة التقليدية، وينتمي إلى نوع يتطلّب استغراقاً عميقاً وكاملاً. إنّها محاولة لقول الوجود والألم والوحدة بلغة تقرّب الصلة بين الشاعر واللغة والمرجع الحياتي».
الاستغراق العميق هنا يجعل عمل أبو زيد على قصيدته أشبه بعمل النحاتين أو صائغي الأحجار والمعادن الثمينة. ثمة رهافة شديدة وعناية فائقة بكل جملة وكل مفردة وكل حرف. هل يجد صلة لهذا بالشعراء البرناسيين؟ يفهم أن يرى القارئ صدىً ما للبرناسية، «لكنّ عنايتي باللغة لا تشبه عنايتهم. الفكرة أنّ قصيدة النثر خسرت الكثير من عناصر الإيقاع التي توفَّر عليها الشعر الحر والقصيدة العمودية. لهذا فهي تحتاج إلى عناصر جمالية وتخييلية تعوِّض هذه الخسارة. وهذا ما يُبرر ندرة هذا النوع الذي يستلزم بحثاً ودراسة تشبه مرحلة «البحث» التي يمر بها الرسام أو النحات قبل اهتدائه إلى أسلوب أو صيغة مبتكرة لتأليف عمله».
ما يقوله أبو زيد يحسِّسنا بأنّ كتابته ليست ابنة ارتجال شعري مُترف أو اعتباطي، بل عمل صارم يتطلّب حزمةً متنوعةً من المكوِّنات والتقنيات. في طيَّات نبرته الهادئة، ثمة حوار وحركة لا تتوقف بين السطح الرائق والأعماق الهادرة. الشعر هنا يتمثل في جعل الهدير غير مسموع على السطح، أو كما يقول الشاعر: «لا أُبقي يداً/ لا يدَ لي/ خارج الظلمة». الشعر الصافي هو طموح أبو زيد الأساسي. ثمة سعيٌ واضح إلى نوع من الكمال. التفلسف والتأمل حاضران في هذا السعي، لكنهما غير مجلوبين في حالتهما الخام، بل نجدهما ذائبين في لغة القصيدة. ما يحدث يذكرنا بالفرنسيين شار ومالارميه، والألماني ريلكه. نتحرّى عن هذا عند صاحب «فلتخدمكِ عيناكِ الجميلتان في الهوة»، فيقول: «شار من المفضلين لدي. أقدِّر عمل مالارميه لكني لستُ صانع أشكال فقط كما فعل في أعماله الأخيرة. قرأت ريلكه وتراكل بالطبع. لا أدّعي الحكم على تلك التجارب. لكني أقول إن اللحظة الشعرية تفرض نفسها مرفدةً بكل هذه الثقافة الشعرية والفكرية، العربية والأجنبية. على الشاعر أن يعرف كيف يكتب نفسه في النهاية».
رغم كل هذا، لا تبتعد كتابة أبو زيد عن شعر التفاصيل والسرد العادي والحياة اليومية. لكن، كما هي حال التأمل والفلسفة، تحتاج هذه التفاصيل السردية أن تكون قابلة للذوبان في جسم القصيدة وتكون من النوع الذي تُمكن ترجمته إلى شعر صافٍ وبلا شوائب. فالقصيدة، كما يقول الشاعر، تحتاج أن تكون «ملساء/ مثل روحٍ واحدة».