قراءات متعددة لبيروت في «اللبنانية»زينب مرعي
هل بيروت مدينة، فكرة أم أسطورة؟ مكان أم شخصيّة سينمائيّة أو روائيّة؟ مؤلّهة أم ملعونة؟ لعلّ الشاعر محمد علي شمس الدين الذي قال إنّ «بيروت تشبه كثيراً ليلى، وكلٌّ يرسم ليلى على ليلاه»، أعطى الجواب الشافي عن هذه التساؤلات التي طرحها مؤتمر «قراءات متعددة لمدينة بيروت»، الذي نظّمه قسم اللغة الفرنسيّة وآدابها في الجامعة اللبنانيّة (كلّية الآداب والعلوم الإنسانيّة)، بالتعاون مع قسم الفنون والآثار، وذلك في مبنى الإدارة المركزيّة للجامعة (المتحف، بيروت). شارك في المؤتمر الذي يندرج ضمن نشاطات «بيروت عاصمة عالميّة للكتاب»، عدد كبير من الأكاديميين والباحثين ليدرسوا صورة بيروت في الفنون المختلفة: الأدب، السينما، التشكيل والمسرح.
انقسمت الأبحاث زمنيّاً بين مَن تحدّث عن العاصمة اللبنانيّة قبل القرن العشرين، وخصوصاً في القرن التاسع عشر، ومن تحدّث عن بيروت القرن العشرين التي مثّلت فيها الحرب الأهليّة نقطة تحوّل أدّت إلى كلّ هذا الجدل حول صورة بيروت. اتفّق الباحثون على أنّ المدينة كانت في القرون الغابرة، مدينة العلم «ومعلماً ثقافياً وحضارياً يضاهي مركز مدينة أثينا في القرون المسيحيّة الأولى، عندما كانت لا تزال قسماً من الأراضي المقدّسة» وفق أستاذة التاريخ في الجامعة اللّبنانية جولييت الراسي. بينما تناول أستاذ التاريخ في الجامعة اللّبنانية أيضاً، بيار مكرزل أهميّة مرفأ بيروت اقتصادياً في القرنين الرابع والخامس عشر. وعبّر مدير المعهد العالي للموسيقى وليد غلميّة عن أهميّة بيروت في القرن التاسع عشر، موضحاً أنّها «مثّلت الزاوية الثالثة للمثلّث الموسيقي في المشرق العربي الذي كان يتألّف من بيروت، حلب وبغداد». كذلك تحدّثت أستاذة النقد الحديث الأدبي والمسرحي في الجامعة اللبنانيّة وطفاء حمادة، عن دور بيروت في تصدير المسرح إلى العالم العربي مع الرائد الأول مارون النقّاش. بقيت بيروت حتى الستينيّات «المدينة الحلم» للفنّانين والكتّاب العرب الهاربين من سطوة حكّامهم. لكن ما إن وقعت الحرب حتى أصبحت بيروت منفى آخر، هرب منه المثقّفون العرب إلى باريس وفق الشاعرة ربى سابا حبيب. دخل بعدها الفنّانون اللّبنانيون والعرب، دوّامة تلخّصها حبيب بصورة بيروت المؤلّهة في المخيّلة لما فيها من انفتاح وحرّية، وبيروت الملعونة بسبب الحرب. مثلاً، ثار شاعر الحداثة خليل حاوي على بيروت لأنّ «الذات فيها خلت من القيم». لكن كما عبّر العديد من الفنّانين، فإنّ سنوات الضياع في بيروت لم تنتهِ مع انتهاء الحرب، بل هي مستمرّة مع الانقسامات التي تحكم المدينة حالياً.
تحدّث عباس بيضون قائلاً: «بيروت اليوم، تساوي كلّ شيء إلّا نفسها، فهي واقعة في أزمة لغة وهويّة وأزمة عالميّة». ويرى بيضون أنّ الانقسامات السياسيّة تملأ السطح فلا تسمح برؤية ما يتبرعم تحتها من خيارات حرّة، وتشارك في أنماط المعيش والثقافة والفن والتراث... سمير حبشي بدوره رأى أنّه «عندما أصوّر فيلماً في بيروت، أحار لمن أعطي البطولة في «الجنريك». هل أكتب بطولة «فلان»، بطولة بيروت أم شوارع بيروت؟» ومع ذلك، يرى أنّ بيروت مقموعة، تلزمها روح تحيا بها. هذا الأمر اتفق عليه معظم المشاركون، فبيروت الوسط التجاري لا تشبه بيروت ما قبل الحرب. تتأسّف المصوّرة هدى قساطلي على صور المباني القديمة التي أخذتها من أحياء بيروت وتقول إنّ «90 في المئة من المباني في هذه الصور جرى هدمها»، وتضيف «أفهم ضرورة وجود الهندسة الحديثة في المدينة، لكن ما لا أفهمه هو الرغبة في محو كلّ شيء». ورصدت الباحثة ليليان سويدان تأثير الحرب على السينما اللبنانيّة، فلاحظت كثرة التقطيع في المونتاج، غياب التماسك في الشكل، وطغيان الخلفيّة البيضاء كتعبير عن الفراغ... «في الحرب كانت الكاميرا تصوّر احتضار المدينة. وأفلام ما بعد الحرب طغت عليها المناظر الجرداء».