«غرب عدن» ملحمة المسحوقين وأوديسة القرن الحادي والعشرينعثمان تزغارت
بعد خمس سنوات من الغياب، يسجّل غوستا غافراس، السينمائي الفرنسي/ اليوناني الكبير، عودةً مدوّية إلى واجهة السينما العالميّة، بفيلمه الجديد الذي قُدّم عرضه الأول في اختتام «مهرجان برلين السينمائي» الأخير. وقد حمل الشريط عنوان «غرب عدن» Eden à L’ouest، في إشارة رمزية إلى فيلم إيليا كازان الأشهر «شرق عدن» (بطولة جيمس دين ـــــ 1955).
في هذا العمل الجديد، يقوم صاحب Hanna K ــ الذي يُعدّ أحد أبرز رموز «سينما الالتزام» التي خرجت من رحم انتفاضة الطلاب اليسارية في الستينيات (راجع الكادر أدناه) ـــــ بالتصدّي لظاهرة «الهجرة السرية»، مستعيراً من هوميروس التيمة المركزية للأوديسة: بطل تائه وأعزل يشقّ البحار ويتحدّى الأقدار من أجل تحقيق مصيره. وإذا بـ«إلياس» المهاجر الآتي من الضفة الجنوبية للمتوسط، بحثاً عن حياة أفضل في جنّة عدن ـــــ أي الغرب! ـــــ يحلّ هنا محلّ شخصية «أوليس» (أو عوليس) الأسطورية!
مثل بطل الأوديسة، يشقّ إلياس البحار بحثاً عن مصير أفضل ويخوض مع رفاقه «الحرّاقة» (تسمية تُطلق في اللهجة الجزائرية على المرشّحين للهجرة السرية، وقد أصبحت مصطلحاً متداولاً في الأدبيّات السياسية والإعلامية في أغلب لغات دول جنوب أوروبا)، مغامرة التيه ذاتها التي واجهها بطل هوميروس. صحيح أنّ أمواج المتوسط حلّت هنا محلّ بحر إيجيه الأسطوري. لكنّ التغريبة التي يُقدم عليها إلياس برفقة حفنة من مسحوقي القرن الحادي والعشرين، لا تكاد تختلف عن المغامرة الأسطورية التي خاضها أوليس في فجر الحضارة الإنسانيةعلى متن واحد من المراكب السرية الكثيرة التي تحاول التسلّل إلى الفردوس الأوروبي، مُصارِعةً أسوار القوانين العنصرية التي تريد حماية قلعة الحضارة الغربية من «البرابرة الآتين من الجنوب»، يبحر بطل كوستا غافراس في رحلة مطوّلة ومحفوفة بالمفاجآت والمخاطر. يأمل أن توصله هذه الرحلة إلى باريس، ليحقّق حلمه الطفولي بزيارة مرقص «الليدو» الشهير، في جادة الشانزليزيه. لكن الحلم الباريسي سرعان ما ينقلب إلى كابوس، ولن يرى بطل غافراس من مدينة الأنوار سوى وجهها المظلم والعنصري.
يقول كوستا غافراس: «إلياس لا يشبه أوليس فحسب، بل فيه أيضاً بعضٌ منّي. أنا أحسّ بشيء من غربتي في تيه هذا الغريب. أنا مثله عرفتُ رحلة تيه مشابهة في شبابي. وكآلاف المسحوقين من أمثاله، حلمتُ بأن أرى ذات يوم باريس التي كانت تبدو لنا ملجأً وملاذاً مفتوحاً لكل تائه وغريب».
من خلال تغريبة إلياس وأوديسة مسحوقي القرن الحادي العشرين المرشّحين للهجرة السرّية، يقدّم غافراس هنا مرافعةً مدويةً ضد العولمة، مسلّطاً على الحضارة الغربية نظرة تشريحية قاسية تنتقد النزعة الفردانية المغالية التي تعمل على تسليع كل شيء: البشر والعواطف والقيم والعلاقات الإنسانية.
ومع ذلك، لسنا هنا أمام فيلم سياسي تغلب عليه النبرة النضالية. كوستا غافراس اختار أن يصوّر أوديسة إلياس ورفاقه «الحرّاقة» في قالب من الكوميديا الإنسانية السوداء التي تمتزج فيها باستمرار اللحظات الدرامية القاسية بالمواقف التراجي ـــــ كوميدية الفاقعة. فالفيلم يُفتتح بمشهد درامي يُطلب فيه من إلياس ورفاقه رمي أوراق هويتهم في البحر، للإفلات من المطاردة البوليسية، قبل أن يرسو مركبهم ليلاً على أحد شواطئ الفردوس الأوروبي. لكنّ إلياس يفاجأ، مع إشراقة شمس اليوم التالي، بأنّ الشاطئ الذي تسلل إليه هو «شاطئ عراة» مأهول بطائفة من عشاق الاصطياف والعوم من دون أية ملابس، ما يدفعه إلى التخلص بسرعة من ملابسه، ليذوب في المشهد العام، ويفلت بذلك من مطاردة حرس الحدود!
لكن ذلك المشهد المتفائل الذي يعطي الانطباع لإلياس، الواقف على الشاطئ الأوروبي عارياً إلا من إنسانيته، بأنّه يستطيع أن يحقّق حلم المساواة مع غيره من البشر من سكان القارة العجوز، سرعان ما يتبخّر مع توالي المحن والمصاعب التي تواجهه تباعاً.
السيدة الأوروبية الطيبة التي تساعده للإفلات من المطاردة البوليسية، وهو يخطو خطواته الأولى على الشاطئ الأوروبي، لن تلبث أن تطالبه بأن يسدّد نظير تلك المساعدة خدمةً جنسية تداوي بها القلق الوجودي الذي ينتاب أعوامها الخمسين. وصاحب المطعم المِثلي الذي يبدي بعض التعاطف معه في البداية، سرعان ما ينقلب إلى رب عمل مستبد يسخّره في أعمال التنظيف المهينة، ثم يقوم باغتصابه! وعمّال المصنع المسحوقون مثله الذين يتوقع منهم تفهّم وضعه، يعاملونه بعدوانية، لأنّه يرون فيه يداً عاملة وافدة تهدّدهم في لقمة عيشهم. وحتى شلة الشحاذين المشرّدين في شوارع باريس الذين يقاسمونه خيمتهم المتواضعة للاحتماء من برد ليلته الباريسية الأولى، سرعان ما يطالبونه بمغادرة الفضاء المخصّص لهم، خشية أن يزاحمهم في تقاسم مصادر الرزق الشحيحة. أمّا السيدة اليسارية التي تتعاطف إيديولوجياً مع قضيته، فإنّها تصطحبه إلى بيتها الأنيق في الجادة التي تقع على الضفة اليسرى لنهر السين، لكنّها تتركه على العتبة، ثم تقفل بابها في وجهه، مكتفيةً بمنحه بعض الملابس القديمة ليحتمي بها من برد الشارع!
وقد نجح هذا الفيلم في أن يعكس أيضاً على الصعيد اللغوي، تشابك الحياة المعاصرة وتعقيداتها أمام العولمة الزاحفة. أحداثه تدور في ما يشبه برج بابل عصري، حيث الشخصيات التي تحاول التواصل، تتحدث بسبع لغات مختلفة، منها لغة وهمية ابتكرها غافراس خصّيصاً لهذا الفيلم كي يتواصل عبرها أبطال أوديسته العصرية من المرشّحين للهجرة من مختلف الجنسيات، التائهين على رصيف الإنسانيّة المأزومة.

عودة «السينما الملتزمة»؟بعد أفلامه الملتزمة عن القضيّة الفلسطينيّة وديكتاتوريات أميركا الجنوبيّة والأنظمة الشموليّة وغيرها... جاءت التحوّلات السياسية والإيديولوجية التي شهدتها نهاية الثمانينيات، لتفقد صاحب الثلاثية الأشهر في السينما السياسيّة (زد ـــــ الاعتراف ـــــ حالة حصار) الكثير من توهّجه. في عام 1989، وقبل أشهر قليلة من انهيار جدار برلين، أحرز غافراس جائزة «الدب الذهبي» في مهرجان برلين عن فيلمه «العلبة الموسيقية». لكنّه عرف بعد ذلك فترة صمت مطوّلة، حيث لم يقدم أيّ جديد حتى عام 1995. وهي السنة التي اشترك فيها مع عباس كياروستامي ولاس هالستروم في إخراج فيلم جماعي بعنوان «الأضواء وما شابه» Lumières et compagnie.
توقع محبّو غافراس أن يكون ذلك الفيلم بمثابة انطلاقة ثانية له، تأتي امتداداً لتجربته المخضرمة. لكنه فاجأ الجميع حين أقدم في عام 1997، على خوض تجربة هوليودوية غير مقنعة فنياً، ومثيرة للجدل على الصعيد الفكري. إذ رأى كثيرون أنّها لا تليق برمز سينمائي طليعي مثله. لم تعمّر تلك التجربة طويلاً على الرغم من المنحى التوفيقي الذي سلكه غافراس. إذ فشل الفيلمان الهوليووديّان اللذان أخرجهما، وهما «مدينة الشرّ» Mad City (بطولة جون ترافولتا ـــــ 1997) و«آمين» Amen (بطولة ماثيو كاسوفيتش ـــــ 2002).
وألقت تبعات تلك التجربة بظلالها على كامل أعمال غافراس في مرحلته الأخيرة، ما دفعه إلى الصمت مجدداً. هكذا، لم يقدّم جديداً منذ خمس سنوات. وإذا به ينبعث كطائر الفينيق من رماده، ليستعيد في «غرب عدن» ألق بداياته. ماذا لو منحت محاكمة العولمة نفَساً ثانياً لـ«السينما الملتزمة»؟