عام مضى على غياب الكاتب واللغوي والناشر الذي ترك بصماته على الثقافة العربيّة المعاصرة. «الأخبار» توجّه تحيّة إلى مؤسّس «دار الآداب» وصاحب «الحيّ اللاتيني»، بصوت الكاتب والناقد المغربي محمد برادة
محمد برادة
وأنا أسترجع علاقتي بالمرحوم سهيل إدريس، يخيل إليّ أنني كنت أعرفه معرفة حميمية مع أننا لم نكن نلتقي إلا في المؤتمرات الأدبية، أو حين أزور بيروت في فترات متباعدة. ذلك أنّ د. سهيل أليف دمث، شفاف، ذو روح مرحة وبديهة حاضرة، سرعان ما يجعلك تأنس إليه لتحدثه في انطلاق ومكاشفة. إلا أنني عندما أستعيد تاريخ علاقتي مع العزيز سهيل إدريس، أجد أننا مررنا من لحظات ومحطات عدة تتراوح بين التعرف عن بُعد، ثم التعرف الخشن قبل أن تؤول العلاقة إلى صداقة ووُد مقيميْن.
كانت لحظة التعرف عن بُعد، حين كنت أنهي مرحلة التعليم الثانوي سنة 1954 في مدارس محمد الخامس في الرباط، إذ أتيح لي أن أقرأ مجموعته القصصية «نيران وثلوج»، وأن أشغف بأجوائها وأسلوبها الريان وما تحكيه عن علائق الشبان والشابات وهم يتزحلقون فوق ثلوج جبال لبنان... لكن ما قوّى علاقتي بهذه المجموعة القصصية، هو أنني كنت أدرس في قسم مختلط يضمّ عشر فتيات براعم، يستثرن خيالنا وأجسامنا المراهقة، فكنا نحن التلاميذ «النجباء» نجهد في ابتداع الوسائل لإثارة انتباههن؛ وكنت أنا أرشح نفسي، خلال الحصص الفارغة أو عندما يتغيّب الأستاذ، لألخص لتلاميذ وتلميذات الفصل قصصاً أو روايات قرأتُها، وغالباً ما كنت أغتنم الفرصة لأمرّر رسائل مشفّرة إلى من كانت، آنذاك، تستميل مخيلتي المجنحة الجانحة! وقد وجدت في قصص «نيران وثلوج» مورداً غنياً لتصوير تلك العلاقة المنطلقة، المحلوم بها، بين الشباب التي كان السارد «الإدريسي» يبرع في تصويرها، مُطفئاً عطش النار بنُدف الثلج الباردة.
بعد ذلك مباشرة، ونحن على مشارف 1955، حصلتُ على نسخة من «الحي اللاتيني» التي كانت قد أثارت ضجة مدوية على صفحات مجلة «الآداب» وكتب عنها النقاد مُشيدين بجرأة الموضوع الذي يكشف جوانب من العلاقة بالمرأة الفرنسية، وتبدُّد أحلام الشاب الشرقي المتطلع إلى اكتشاف صورة على غير منوال للمرأة الباريسية الجميلة، المثقفة، فيقع في فخ مغامرات مبتذلة، وسرعان ما يستعيد حنينه إلى الحبيبة الشرقية، الجوهرة المكنونة ذات الجسد والروح المصونيْن... وكان اهتمامنا، نحن تلاميذ السنة الخامسة من التعليم الثانوي، ينصبّ أيضاً على الجديد في السرد الذي أنجزه سهيل، من خلال تغيير الضمائر والانتقال من ضمير الغائب إلى المتكلم، وهي مسألة أبرزها أحد النقاد وعدّها إنجازاً غير مسبوق في الرواية العربية.
دارت عجلة الأيام بضع سنوات، وعدتُ من القاهرة مزهواً بليسانس الأدب واللغة العربية، محمّلاً الأماني والتطلعات في مجال الإبداع الرحب، وانخرطتُ في تأسيس «اتحاد كتّاب المغرب» إلى جانب المرحوم محمد عزيز الحبابي، وعقدنا المؤتمر الأول صيف 1961، وكان من بين المتحدثين الروائي مولود معمري الذي ألقى محاضرة عن بطل الرواية الجزائرية بين الانهزام والرحيل إلى فرنسا، وتوليتُ ترجمة محاضرته وأرسلتها إلى مجلة «الآداب»، فكانت أول مساهمة لي تُنشر في المجلة بعدما كنت مجرد قارئ مواظب عليها.
هناك لحظة مغايرة في علاقتي المديدة بسهيل إدريس، قد أسميها لحظة الخشونة المرتبطة باندفاع الشباب والميل إلى الجذرية والتطرف. كان ذلك أثناء مهرجان المربد في العراق سنة 1971، وكنت في إقامة دراسية في باريس لتحضير أطروحة جامعية، وهي مرحلة اقترنت لديّ بمراجعة الموروث، والإيغال في التساؤل ومراجعة الأحكام الجاهزة، والتطلع إلى أفق مفقود بعد انكسار 1967... يصعب علي الآن أن أستحضر بدقة مناخ الغليان النفسي والإيديولوجي في بداية السبعينيات، وما كان يستثيره من تمرد ورفض لدى مجموعة من المبدعين والنقاد المنتمين إلى جيل الستينيات على امتداد الوطن العربي. لكنني أذكر أنّ نصوصاً شعرية وقصصية وروائية ومسرحية كانت قد نُشرتْ حاملة بصمات «الانشقاق» والطلاق بين الأدبي والسياسي، أقصد السياسي الذي كان يمثّل خلفية للهزيمة والتسلط. في هذا السياق، عُقدت طاولة مستديرة عن مسؤولية الكاتب العربي بعد 1967، ضمن فعاليات المربد لتلك السنة، وتدخل بعض الأدباء المرموقين آنذاك، وكان من بينهم سهيل إدريس... ووجدتُ أو خيِّل إليّ أنا وبعض الزملاء أنّ ما قالوه يتسم بالاعتدال ولا يعبّر عن المرارة التي كنا نستشعرها، والتي أذكتْ لدينا تفكيراً جذرياً ينضح بالسخط والغضب. عندئذ طلبت الكلمة ورددتُ على عزيزنا سهيل في حدة وتوتر، ثم كتبت فحوى الرد في مقال بعنوان «الهزيمة ـــ الوليمة» نشرته في الملحق الثقافي لجريدة «العلم» المغربية... كانت كلمة لا تخلو من قسوة وتشنّج، إلا أنها حملت بصمات الشعور بالخيبة واليأس بعد هزيمة 1967. ولعلني كنتُ متحاملاً على العزيز سهيل، لأنني كنت أعلم أنّه فتح مجلته لنشر مقالات انتقدتْ الناصرية التي كان يتشيّع لها، إذ سمح بنشر رسالة الشاعر أدونيس إلى عبد الناصر، رغم ما اشتملت عليه من انتقادات جذرية.
مهما يكن، فإنّ تلك اللحظة المتوترة في علاقتنا سرعان ما تخطيناها، بفضل سماحة سهيل وقدرته على تفهّم مواقف مَنْ هم أصغر منه سناً. واغتنمتُ فرصة انعقاد أول لقاء للرواية العربية الذي أشرفتُ عليه في مدينة فاس عام 1979، ضمن نشاطات اتحاد كتّاب المغرب، فوجهتُ الدعوة إلى صاحب «الحي اللاتيني» ليشاركنا في استعادة مسار الرواية العربية وتقويم منجزاتها وإعادة صوْغ إشكاليتها. وأذكر أنني سلمتُه، خلال لقاء فاس، مخطوطة «الخبز الحافي» لمحمد شكري لينشرها في «دار الآداب». أخذ النص ووعدني خيراً، في حضور محمد شكري، ولكنّه أعاده إليّ بعد شهر مع رسالة اعتذار لأنّ السيرة «الشكرية» كانت تشتمـل على مشاهد وأوصاف مفرطة في الجرأة آنذاك، ولغتها قد تخدش حياء القارئ العربي! إلا أن سهيل قبِل أن ينشر في السنة نفسها مجموعتي القصصية الأولى «سلخ الجلد» وكذلك كتابي «محمد مندور وتنظير النقد العربي».
منذ ذاك، توطدتْ صداقتي بسهيل إدريس وتدثرت بغلائل الصفاء والمكاشفة، وأصبحت زياراتي لبيروت منتظمة بعد زواجي من ليلى شهيد، فكنتُ حريصاً على زيارته في كل مرة أو كان هو يزورني في بيت حماتي المرحومة سيرين الحسيني... وما زلتُ أحتفظ في ذاكرتي بسهرة جميلة في بيت أمّ ليلى، ذات صيف، بصحبة إلياس خوري ومحمود درويش. إذ ْ ألححتُ عليه أن يغني لنا روائع من كلاسيكيات محمد عبد الوهاب التي بلغني أنه يجيدها، فأتحفنا بمقطوعات «من عذبك» و«كلنا بيحب القمر» و«كل دا كان ليه»... وكان أداؤه يفيض حساسية ورقة، وصوته في منتهى العذوبة والرخامة. مثل تلك اللحظات وطدتْ صداقتي بسهيل وجعلت منه أخاً كبيراً أصارحه بما يجول في الخاطر من دون تحرّج.
لكن هذا الودّ لم يكن ليحجب عني تقديري للدور الذي اضطلع به على امتداد نصف قرن، بعد عودته من فرنسا. كنت دوماً منتبهاً إلى دوره في مجال النشر واكتشاف المواهب الأدبية وحرصه على استمرار صدور مجلة «الآداب» لتكون منبراً مشتركاً يبلور قيماً فنية وإنسانية تتبرعم في مخيلة وعقول مبدعين عرب يعيشون شبه محاصرين وسط شروط سياسية متردية... وكنتُ مدركاً لاختياره نهْج الطريق الصعب الذي يقتضي نفَساً طويلاً، وتحمُّلاً لأهواء الشعراء والنقاد والكتّاب ونزواتهم، إلى جانب رقابة الأنظمة ووصائيّتها.
وبالفعل، عندما أتأمل مسار سهيل إدريس، يلفت نظري عنصر أساسي، هو سعيه الدؤوب إلى تحقيق «زواج» ناجح، بين جيّد الموروث وجديد العصر. وهذا ما نلمسه انطلاقاً من تكوينه الثقافي والأدبي، فهو متملّك لثقافة عربية كلاسيكية متينة ولثقافة معاصرة حداثية استقاها من السوربون ومن قراءاته في الآداب الأجنبية... ويُخيل إليّ أنه «الزواج» نفسه الذي سعى إلى تحقيقه بين القومية العربية بوصفها أفق تحرير للشعوب، والفلسفة الوجودية السارترية التي وجد فيها ما يُدعّم الفرد العربي المتطلع إلى الحرية المسؤولة وإلى التخلّص من «الماهية» المسطورة بيد سدنة الماضي وحرّاسه.
لعل تحقيق هذا الزواج الصعب، هو أساس المعادلة التي كان سهيل إدريس حريصاً على تجسيدها ضمن شروط عربية بالغة التعقيد؛ ذلك أنه كان يريد لـ«الثقافي» المتجدد أن يُعمق «السياسي» ويطور مفاهيمه. لكن توالي الهزائم والانكسارات، قاد إلى انفصال السياسي عن الثقافي وترسيخ استبدادية الحكم والغوص في مستنقعات أزمنة الرصاص، واستحكام سطوة الإيديولوجيا الماضوية. منذ الثمانينيات، تعمّق الطلاق بين الثقافي والسياسي، وفقدت القومية العربية أفقها المنفتح وغطت المصالح القطرية على الأهداف المشتركة، وحالت دكتاتورية الأنظمة من دون دمقرطة الصراع والمؤسسات، والاعتراف بحقوق الأقليات، وضمان حرية الفكر والاعتقاد... ودخلت أموال البترو ــــ دولار على الخط لتعكّر مياه الثقافة والإبداع وتسهم في تزييف القيم وتُقوي الانفتاح الأهوج على العوْلمة الربحية.
وكان سهيل إدريس وسط ذلك الإعصار، بمجلته ودار نشره، يبدو كصفصافة يتيمة تتحايل حتى لا تعصف بها رياحُ التشرذم والحروب الأهلية والنعرات الطائفية. لقد ظل، رغم ذلك، وفياً لخطه القومي المتفتح، محاولاً الاندماج في لحظة تبنيُن جديدة داخل الحقل الثقافي العربي. ولم يكن السياق المُتهالك يسمح ببلورة معالم انطلاقة مغايرة تقودها مجلة «الآداب» كما كان الشأن في مطلع الخمسينيات...
لكن توافُد الدم «الإدريسي» الشاب على ساحة «دار الآداب»، ممثلاً في ابنه سماح وابنته رنا ومساندة الأم عايدة مطرجي التي اضطلعتْ بدور مهم في قيام مشروع سهيل إدريس واستمرار، هو ما يفتح باب الأمل والتطلع لكي تُؤتي بذور عزيزنا سهيل أكلها، وتحتل الثقافة والإبداع مكانهما الطبيعي المتمثل في المراهنة على قوة الكلمة والمخيّلة لتفعيل المسكوت عنه.
* كاتب وناقد مغربي


ولادة «الآداب»

ظللتُ أنتظره حتى السادسة، ثمّ غادرتُ المكتبَ بعدما تلفن لي مديرُ المطبعة ليخبرني بأنّ العدد تأخَّر في التجليد، وسيَحْمل إليَّ في البيت ثلاثَ نسخ منه فور صدوره. حوالى الساعة الثامنة، دُقّ بابُ منزلي، فتناولتُ من مدير المطبعة رزمةَ النسخ الثلاث وأنا أشكره، ثمّ دخلتُ غرفتي، وأغلقتُ خلفي الباب. جلستُ على الأريكة، متهيِّباً أن أفتحَ الرزمة. ثمّ تمهّلتُ في فضّ ورقتها. وبرز لي غلافُ العدد الأوّل من «الآداب»، وعليه صورةُ الشاعر علي محمود طه. تناولتُ العددَ بيدٍ ترتجف. أحسستُ دمعةً تغشى عينيّ. أتراني دخلتُ غرفتي وأغلقتُ خلفي الباب حتّى لا يراني أحدٌ أبكي؟ بعد لحظات، دخلتْ هي الغرفة. تناولتْ من على يميني عدداً منها. وجلستْ إلى يساري، وأخذتْ تقلّبه. ثمّ ضمّتني إلى صدرها وقالت بصوت مُخضلّ: مبروك! ابتسمتُ وأنا أمسح دمعتي. عن يساري، كانت أمّي سهيلة. وعن يميني، ابنتي «الآداب».
من يوميات سهيل إدريس
(23 كانون الأوّل 1952)