الميديا العربية تسيّس تقارير المنظمات الحقوقية لسبب من اثنين: إما لصبّ الزيت على نار المؤامرة الرائجة دوماً، أو لعدم الإلمام بطبيعة تلك المنظمات
محمد خير
أن تُتّخذ «المهنية الإعلامية» ذريعةً للمساواة بين الضحية والجلاد، فذلك ليس من العدل قطعاً. لكن ماذا عن العكس؟ هل يجوز ـــــ منعاً لتلك المساواة المجحفة ــــــ أن يخالف الإعلامي قواعد المهنة؟ هل يجوز خلط الخبر بالرأي بحجّة فضح «انحياز جهة للاحتلال الإسرائيلي» مثلاً؟ لكن ما مناسبة هذا الكلام؟ أصدرت أخيراً منظمة العفو الدولية تقريراً عن غزة اتّهم إسرائيل و«حماس» بارتكاب جرائم حرب. خلال تغطيتها الخبر، أرفقت قناة «الجزيرة» ما يكاد يكون «مقالاً» لمراسلها «يشرح» للمشاهدين الظلم في تقرير منظمة العفو ومساواتها بين جيش مدجج وشعب أعزل... والخلاصة كانت تقريراً أقرب إلى تعقيب على الخبر لا تفصيل له، وحيز زمني استغرقه «رأي» المراسل، أو المحطة، اقترب من زمن عرض الخبر الأصلي. لكنّ الخطورة لم تتوقف على مدى تناسب ذلك الخلط مع مفاهيم المهنية، بل امتدت لتشمل مصداقية الخبر نفسه وتضليلاً يصعب الجزم إن كان متعمداً.
لكن لماذا عدّت صياغة التقرير تضليلاً؟ تكمن الإجابة في طبيعة عمل بعثة منظمة العفو الدولية، هي بعثة مهمتها التحقّق من شيء واحد «هل وقعت جرائم حرب في غزة خلال المواجهات العسكرية أم لا؟». التحقيق هو إجراء قانوني. وبالنسبة للقوانين الدولية، استخدام الفوسفور (إسرائيل) جريمة حرب، وقصف الأحياء المدنية بالصواريخ («حماس» حسب تقرير المنظمة) هو أيضاً جريمة حرب: تسجيل وتوثيق الوقائع لا علاقة له بالموقف بين المتنازعين، لأن التوثيق ليس فعلاًً سياسياً، والقائمين به ليسوا سياسيين. وجميع المنظمات الأممية والأهلية التي تقوم بالدور نفسه، تفصل بين عملها البحثي الميداني والبيان السياسي. ويعرف الحقوقيون العرب جميعاً جهود «هيومان رايتس ووتش» وهي من أكثر المنظمات إنصافاً في قضايا منطقتنا، أدانت الانتهاكات الإسرائيلية مراراً. لكنها خلال عدوان تموز 2006، وبالتوازي مع إداناتها للقصف الإسرائيلي، أدانت أيضاً قصف المدن الإسرائيلية بصواريخ «حزب الله». واتُّهمت المنظمة يومها بالانحياز لإسرائيل، وتحديداً بأنّها تفتعل توازناً عبر إدانة الطرفين. مرةً أخرى، ليست «هيومان رايتس ووتش» وغيرها هيئات حزبية أو كيانات سياسية، وليست معنية بمن البادئ أو مَن له الحق التاريخي ومَن الأقوى والأضعف. هي تهدف فقط إلى التأكد من وقوع مخالفات للاتفاقيات الأممية بشأن الحروب والمدنيين والأسرى. نقطة وانتهى. وما محاولات الميديا العربية تسييس تلك التقارير إلا لسبب من اثنين: صبّ مزيد من الزيت على نار المؤامرة الرائجة دوماً، أو عدم الإلمام بطبيعة تلك المنظمات.
على أنّ قضية كهذه لا يلزم لحلّها أن يلمّ الصحافي بكل كتب القوانين الدولية، يكفي أن يلتزم بالقواعد الصارمة والبسيطة للخبر الصحافي. وهي قواعد تتعدد صياغاتها وتقترب في المعنى، بدءاً من «الخبر للقارئ والرأي للكاتب»، وصولاً إلى «الخبر حرّ، والرأي مسؤول». والمفارقة أنّ «الجزيرة» هي الأكثر حضوراً في مكان الحدث، وخصوصاً فلسطينياً. بالتالي، ما تنقله كاميراتها من صور تُغني عن ألف رأي وتفيض.