رحلة ثقافيّة فنيّة في أعماق التراث المصريبشير صفير
إذا كان لكل بيئة موسيقاها أو لكلّ مجتمع أغانيه، فما اختارته المغنية المصريّة دنيا مسعود ليس الشعبي المصري فحسب بل شعبي الشعبي إذا صحّ التعبير. بعد بحثها عن هذا الفولكلور المصري الغنيّ، عادت لتقدمه إلينا تماماً كما هو، «خام»، ببساطته و«فقره».
كل هذه الصفات وغيرها مِن التي يمكن إطلاقها على الصيغة التي تقدم من خلالها المغنية الشابة عملها الجديد «محطة مِصر» (صادر عن جمعيّة «عِرب»)، لم تهمّش المهنيّة في تنفيذ مشروعها. منذ سنوات، انطلقت رحلة سبر أغوار التراث الغنائي في الأقاليم المصرية من أسوان والمنيا في الصعيد إلى مدن الدلتا، والقناة وبور سعيد، وعادت دنيا لتقدِّم أسطوانتها الأولى بأمانة الخائف على الإرث من عدوَّين لدودَين: الأول، النسيان الذي قد تسبّبه الحداثة ومتطلبات العصر. والثاني التشويه المتستِّر تحت حجة إعادة الإحياء «الحرّةالجمهور اللبناني يعرف هذه المغنية المميّزة من خلال إطلالات محلية عدَّة بدأتها عام 2001 بُعَيد احتكاكها الأول مع الأغنية التي ستصبح أغنيتها ومحور نشاطها الفني. وقد اختارت عشر أغنيات من تسجيلات حيَّة وجمعتها في محطتها المسجلة الأولى: «محطة مِصر». العالم من أقصاه إلى أقصاه يعرف بعض هذه الأغنيات التقليديّة بفضل فرقة «موسيقيّو النيل» الذين نشروا هذا الفن الشعبي بعدما احتضنتهم إحدى أكبر الشركات المهتمة بإحياء موسيقى الشعوب، «ريل وورلد» (أسّسها الموسيقي الشهير بيتر غابرييل وتوزعها «إي. أم. آي»). هكذا سيتعرف الذين وصل إليهم صوت النيل من «موسيقيِّيه» إلى الصدى الأنثوي لهذا الصوت مع دنيا مسعود.
موسيقياً تقسم أغنيات «محطة مِصر» إلى قسمَين محوريَّين: الطابع الأفريقي والطابع الشرقي على مستوى النغم كما لجهة الإيقاع. هكذا أتت هذه المختارات إمّا شرقية (على سبيل المثال: «يا لالي» و«بابيع ياسمين» من مقام النهاوند الشجيّ)، إمّا مبنيّة على أساس السلم الخماسي («بنتاتونِك») الذي ترتكز عليه الموسيقى الأفريقية (وغيرها، كالموسيقى الصينيّة مثلاً).
أما أبرز ما يمِّيز صوت دنيا فهو المنحى الأدائي التمثيلي. إذ إن صاحبته خريجة مسرح في الأساس. وقد نجحت في توظيف حنكة التلاعب المسرحي بصوتها، مضيفةً النَفَس الخاص بطابع كل أغنية من الأغنيات التي حملت المعاني المضمّخة بالمعاناة والخيبة والحزن والتهكم والاحتفال. وفي هذا السياق أيضاً، حرصت دنيا بسهولة الخبير، وغير البعيد عن بيئة هذه الأغنية الشعبية، على اللكنة الخاصة واللفظ المناسب ومخارج الحروف، لتكتمل الحلقة من جهة أخرى مع المرافقة الموسيقية البسيطة التي تولاها ــــ منفردين أو مجتمعين ــــ رأفت فرحات (كَوَله، الآلة الأقرب شكلاً ونبرةً إلى الناي)، ميدو (طبلة) وهاني بدير (رق، دف وكيخون).
لِنقمْ بجولة على أبرز المحطات الأسطوانة. «عَ اللي تغرب»، أغنية من الصعيد، هي في الأصل عبارة عن ارتجال جَماعي نسائي يستعيد رحيل الرجال بعيداً عن قراهم لخوض الحروب أو لإنجاز المشاريع الكبرى كحفر قناة السويس وبناء السد العالي. «حن عَ القلة»، هي من أغاني الدلتا التي تنشدها البنات في إطار حميميّ لا يجمعهُنَّ مع الرجال مثل أوقات الحِنّة والعجين وغيرها. وبعدها «دنيا يا دنيا»، الأغنية الأسوانية التي تنتقد سيطرة المرأة على الرجل في ظلّ قوانين المجتمع الذكوري. أما «يا يالي» فتعكس حياة أهل مدن القناة (بور سعيد) التي تتمحور حول الأسفار والعمل على السفن أو في الميناء. وفي «بتناديني»، يصل الأداء الصوتي إلى ذروته لجهة «التمثيل» تماشياً مع مسار النص ومعانيه، وهي أغنية شعبية عاطفية مصدرها غجر المنيا (الصعيد).
ومن الأغاني ذات الطابع الساخر، «مش عيب عليكِ» التي تغنّيها البنات في أسوان عن حبّ كبيرة السنّ والحماة. كما اختارت دنيا من ريبرتوار فرق خيال الظل والمسرح الجوّال. «بابيع ياسمين» التي يقدِّم لها ارتجالٌ للكوَله وموّال ينضح بالخيبة والألم. والمحطة الأبرز في «محطة مِصر» تتمثّل في أغنية «نعناع الجنينة» الأسوانية التي تؤديها من دون مرافقة موسيقيّة، وتنتمي إلى الشعر الذي تؤديه قبائل الجعافرة العربية التي سكنت الصعيد. إنها عبارة عن مربّعات غزل صريحة، من قصيدة طويلة ــــ تؤدي هنا بعضها ـــ لا يزال يتبارى الشبان في ارتجالها أو إلقائها في المناسبات حتى اليوم. وفي الجولة أيضاً «جرحي» من تراث الكفّ الجعفري وهو من أبرز أشكال الغناء في أعراس الصعيد المصري (أسوان)، و«التاجر» من الغناء الصوفي الصعيدي.
يسير فينا قطار التراث الغنائي الذي تقوده دنيا مسعود وَفق المسار الذي اختارت سكّته، بسلاسة لافتة (رغم بعض الرتابة في المادة الصوتية العامة). تبدأ من «محطة مِصر» وتنتهي عندها، من دون أن يعترضها ما قد يعكِّر سفرتنا سوى هفوة في التسجيل في أغنية «التاجر» (3 دقائق و9 ثوانٍ)، هي «طقّة» لا تبغي الأذى، إذ شاء القدر أن تأتي داخل الإيقاع (!). إضافةً إلى ضرب إيقاعي مُسبَّق مدّة جزءٍ من الثانية (مع أنه حرّ نسبياً) لعازف الطبلة في ختام «بتناديني»، لذا قد يكون تأخيره لمدّة هذا الجزء خياراً أفضل.