أمسيتان على خشبة «مسرح المدينة» يقدّمهما المطرب وفرقة «المدينة»، تعلنان عودته بعد غياب. لكنّ صاحب «اسألوه» يطرق هذه المرّة باب الطرب الأصيل من خلال ألبوم «درويش»

بشير صفير
هل تذكرون عيسى غندور؟ لقد انقلب هذا الفنان، أخيراً، على الموجة السائدة التي كان جزءاً منها، وطلب اللجوء الفني إلى... الشيخ سيّد درويش. بعد غياب عشر سنوات، يعود المغني اللبناني إلى «مسرح المدينة» لإحياء أمسيتَين مع «فرقة المدينة» وإطلاق جديده «درويش» (فوروورد ميوزك). وهو ثالث ألبوم في مسيرته، والأول بعد «صحوة ضميره». يضمّ الألبوم «الشيطان»، «سالمة يا سلامة»، «طلعت يا محلا نورها»، «الشيّالين»، «زوروني»، «أهو دا اللّي صار»... وغيرها من الألحان الخالدة التي تركها سيّد درويش (1892 ــــ 1923).
يمكننا أن نقول إذاً، «ما بيصحّ إلا الصحيح». هذا المثل الشعبي يثبت صحته اليوم أكثر من أي وقت، على الأقلّ فنياً. هناك شعور واضح في الوسط الموسيقي العربي، بأن الروائع التي احترمت مبادئ الموسيقى والشعر، بدأت هجومها المعاكس على جحافل الأغنية المُعلّبة التي احتلّت مسارات الذبذبات المؤدية إلى آذاننا. في لبنان وحده، بدأت تصعب الإحاطة الكاملة بهذه الظاهرة: منذ فترة ولدت فرقة «أصيل»، وأطلقت غادة شبير «قوالب» (سيِّد درويش أيضاً) وقبله «موشحات»، وصدر الألبوم الثالث لريما خشيش، «فلك»، كما نُبِشت تسجيلات سليم سحّاب لبعض الموشحات. وقبل بضعة أشهر، أصدرت «فرقة التراث الموسيقي العربي» باكورتها «غزل»... وتطول لائحة الأسماء التي اختارت إحياء الموروث الأصيل بأمانة، أو التصرُّف به بمهنيّة عالية.
اليوم تنضمّ إلى تلك الظاهرة تجربة جديدة لوجهٍ قديم، هجّ من صفوف منتهكِي ألف باء الفن، ولحِقَ بقطار العودة. تسأل عيسى غندور عن هذا التحوّل الجذري، فيقول إنه لم يكن في الأساس بعيداً عن أجواء الفن الجاد. فوالده المؤلف والملحن حسن غندور كان من المولعين بالمدارس الموسيقية العريقة، وكان يحاول أن يستميل نجله إلى الأصالة من خلال معرفته الشخصية برموز القرن العشرين. لكن عيسى تأثر بتيار الأغنية الجديدة وأراد أن يقوم بتجربة مستقلة تماماً عن اهتمام والده، فأصدر ألبومين هما «شجر الياسمين» و«اسألوه».
في تلك الفترة، تعرّضَ لحادثٍ كاد يودي بحياته، إلا أنه نجا بأعجوبة بعدما خضع لعمليات عدة. ولَّدَت هذه الحادثة عنده نظرة جديدة إلى الحياة كما إلى الفنّ، فأعاد النظر في الأغنية التي عُرِف بها في التسعينيات، ورأى أنها لم تكن سوى مجرّد تجربة عابرة وغير ناضجة... وأن الفن الحقيقي يكمن في مكان آخر، بعيداً عن رؤيته السابقة. هكذا راح يبحث في ذاكرة الطفولة عن الأغنيات التي كان يسمعها في منزل والدَيه، فاختار من أرشيف «الشيخ سيّد» عشر أغنيات، وسجّلها بصوته مع فرقة «المدينة» (زياد سحاب ــــ عود، غسان سحاب ــــ قانون، بشار فرّان ــــ باص، أحمد الخطيب ــــ إيقاعات وأحمد شبّو ــــ كمان).
الترحيب بهذه الأسطوانة أمرٌ غير مشروط بالمبدأ. إذ لا ضرورة قصوى لتطبيق معايير نقدية متشدِّدة ومجرَّدة من تاريخ صاحبها. لهذا، يستند تقويم عمل غندور اليوم إلى مقاربة شاملة لمسيرته الفنية كوحدة لا تتجزأ. ما يسمح لنا بأن نثني أقلّه، على رفض غندور الاستمرار بالمشاركة في «جريمة» تشويه الأغنية العربية وتدني الذوق الموسيقي عند الجمهور، وذلك من خلال انسحابه من اللعبة القذرة. هذه الخطوة وحدها تستأهل التقدير لما تكتنفه من تخلٍّ عن إغراءات الأضواء والشهرة السريعة والثراء السهل. ولمّا أتت الخطوة التالية على طرف نقيض، كان من الواجب توجيه تحية إضافية.
لكن هذه التحية ستبقى موقتة حتى يثبت عيسى غندور أنّ ألبوم «درويش» ليس سوى تجربة برعمية، عندئذٍ نعتبر أن الملاحظات القليلة التي نملكها على الأسطوانة هي من عوارض الولادة الجديدة، وحماسة الانطلاق في مشروع مختلف. فالابن الضال يُذبَح له العجل المسمّن فور عودته، من دون ملاحظات أو تأنيب.


8:30 مساء غد الخميس وبعد غد الجمعة، «مسرح المدينة» (الحمرا، بيروت). للاستعلام:01/753010