جديده «قرية الألماني» رواية مثيرة للنقاش
حين تكون كاتباً عربيّاً، وتنشر لدى «دار غاليمار»... فلا بأس من التلاعب ببعض الحقائق التاريخيّة وتزويرها، كي تحظى بالشرعيّة والرواج! هكذا تحوّل الروائي الجزائري داعية صهيونياً على الأثير، ليحذّرنا من الخطر الجديد الذي يتهدّد العالم... ألا وهو الإسلام الراديكالي. أما الأدب فحكاية أخرى

ياسين تملالي
حلّ الكاتب الجزائري بوعلام صنصال أخيراً ضيفاً على حلقة «لقاءات» Rencontres التي تبثها إذاعة الجالية اليهوديّة الفرنسية Judaïqes FM، وكانت روايته الأخيرة « قرية الألماني» وسيلةً طيعةً في أيدي مذيع متحفّز لتمرير أبجديات الخطاب الصهيوني عن «معاداة السامية لدى العرب والمسلمين».
افتَتحَ المذيع جان كوركوس الحلقة متحدثاً بحماسة عن صنصال، حتى ظنناه أحد المختصّين بأعماله، لكن سرعان ما أحبطنا ونحن نسمعه يخاطب ضيفه: «كتبتم أولى رواياتكم «قَسَم البرابرة» في الخمسين، ثم أصدرتم Poste restante، وهي رسالة مفتوحة إلى مواطنيكم. وهنا بدأت متاعبكم، أليس كذلك؟ أُقلتم من منصبكم كموظف سام في 2003...».
لم يكلِّف صنصال نفسه عناء التصويب. عنوان «الرسالة المفتوحة» المذكورة هو Poste restante : Alger (العنوان: الجزائر) نشرت عام 2006، أي بعدما غادر منصبه بثلاث سنوات، كما أنه نشر قبل صدورها ــــ وبعد «قَسَم البرابرة» ــــ ثلاث روايات. لم يكلّف نفسه عناء التصويب. هو كان يتعجّل للحديث عن «قرية الألماني». كوركوس أيضاً كان يتعجّل، لذا قال فجأةً: «... والسنة الماضية (...) أصدرت لكم «دار غاليمار» «قرية الألماني». عمل رائع. لم يتكلّم قبلكم أيّ كاتب ذي ثقافة إسلامية (...) بمثل هذه القوة وهذا الاقتناع عن المحرقة».
قرأ كوركوس ملخّصاً حبكة الكتاب، قائلاً إنّه يحكي قصة نازي شارك في «الحل النهائي» (أي في المحرقة اليهودية) وفرَّ بعد نهاية الحرب العالمية الثانية إلى مصر، ثم أرسله جمال عبد الناصر إلى الجزائر ليعمل خبيراً عسكرياً لدى جيش التحرير. وهنا أكد الكاتب أنّه استوحى الحبكة من حدث حقيقي: «وجدت نفسي (...) مرةً في إحدى قرى الهضاب العليا الجزائرية. كان يعيش فيها هذا الألماني الذي سمّيته هانس شيلر (...). استعلمتُ عنه فعرفتُ ماضيه النازي. علمت بأنّه فر إلى مصر ثم أرسله الأخ الأكبر عبد الناصر مستشاراً عسكرياً لدى جيش التحرير». سُرَّ المذيع بهذه المادة الدسمة، فسأل: «هل هناك نازيون آخرون ذهبوا للعيش في الجزائر؟». وبدلاً من أن يجيب بأنّه روائي، لا باحث ولا جاسوس كُلِّفَ تعقّب النازيّين، فضّل صنصال تقمص شخصيّة المؤرخ الفهيم: «محتمل. ويُحتمل أنّهم جاؤوا إليها في الظروف نفسها (...) أو عبر شبكات أكثر سرية». وبما أن المحاوِر والمحاوَر بدَوَا متفقَين على تضافر تاريخ الثورة الجزائريّة بتاريخ قدامى النازيين (!)، فلن يعرف المستمعون أنّ هذا الجواب هو في أحسن الأحوال صرحٌ من الأكاذيب بُني على إبرة من الحقيقة الافتراضية. ما المصادر التي تروي أن عبد الناصر أرسل مستشارين نازيين لمساعدة الجزائريين؟ ولماذ لم يرد ذكرهم في أرشيف الدعاية الاستعمارية، وهي التي لم تدع شيئاً إلا واستغلّته لتشويه صورة جبهة التحرير؟ أليس هدف هذا الهذيان إبداء المعركة التحريرية كـ«مؤامرة ناصرية»؟ أي ترديد هلاوس البروباغندا الفرنسية الرسمية في الخمسينيات؟ وماذا عن تعامل الموساد مع استخبارات فرنسا لإجهاضها؟
ولنقص فادح في ثقافته التاريخية، فضّل صنصال الخلط بين الحدث الروائي المتخيَّل والحدث التاريخي المحقَّق، متستّراً حين أعوزته البراهين وراء عبارات من نوع «يحتمل»، ظاهرها الشك الديكارتي وباطنها الجهل. استعار مرةً أخرى نبرة المؤرخ وقال: «الكثير من العرب ومنهم جزائريون التحقوا بألمانيا النازية, وحاربوا في صفوف الكتائب العربية التي ألّفها هتلر».
ولم يصدق كوركوس حظه السعيد مع ضيفه، فهو حالما يتطرق إلى إحدى أبجديات البروباغندا الصهيونية يراه ينوب عنه في تفسيرها. وتواطأ الاثنان ــــ أو قل تواطأ الجهل وسوء النية ــــ لتغييب حقائق ثابتة منها مثلاً أنّ حزب الشعب الجزائري طردَ كل من اشتبه في دعوته إلى التحالف مع هتلر بذريعة تحرير البلاد. ثم هل يغطي التحاقُ بعض العرب بجيوش هتلر واقع تحرير فرنسا وهزيمة النازية في مونت كاسينو من جانب عشرات الآلاف من المحاربين الجزائريين والمغاربة؟ هل ينسينا أنّ العديد من مؤسّسي جبهة التحرير (أحمد بن بلة، مثلاً) حاربوا النازية في صفوف الحلفاء وأن تنكّر فرنسا لجميلهم ورفضها الاعتراف بحق الجزائريين في الاستقلال، هما ما دفع بهم إلى أحضان المعركة المسلحة؟
وبعد الفاصل الإعلاني، بدأ حديث باهت آخر عن أطروحة «تشابه النازية والحركة الإسلامية جوهرياً». وسمعنا من الأفكار الأصيلة المبتكرة أنّ «الإسلاميين فاشيون». وهنا سأل كوركوس: «حسب رأيكم، عندما يقول أحمدي نجاد إن إسرائيل ستُدمَّر، هل يجب أن نأخذ كلامه مأخذ الجد؟» أجاب صنصال وهو يلبس جلد الباحث السياسي: «بالتأكيد. يجب أن نحمل دائماً الإسلاميين محمل الجد». ثم أضاف: «في ما يخص إيران، يجب أن يتجنّد العالم أجمع لإيقافه». وعلّق جان كوركوس: «مهم جداً أن يكون صاحب الكلام جزائرياً مثلك». ولم يدعه الكاتب يكمل مديحه. إذ بدا الخطر الإيراني كأنّه يتهدّده شخصياً: «على الجميع، الروس والصينيين أن يتحملوا مسؤولياتهم». وهنا دخل محاوره المرحلة التالية من مراحل الدعاية الصهيونية التقليدية: «حتى العالم العربي مهدد. في حال اندلاع نزاع نووي، سيذهب ضحيته الجميع».
وواصل كوركوس تطبيق أجندته فتأسّف لجهل شباب الضواحي الفرنسية المسلمين بتاريخ المحرقة. وهنا تأوّه صنصال وأبدى استعداده لأن يحدثهم عنها «ولو تطلب ذلك أن يقضي معهم أسبوعاً أو أكثر كي يفهموا أن البشرية (...) يمكن أن تسقط ثانية في هذه الهمجية، وخصوصاً مع الحركة الإسلامية». وانتهى اللقاء بهذه الكلمات المؤثرة. بدا صنصال في أتعس أيامه، ناسياً أنه روائي لا مؤرخ ولا مختص في قضايا الشرق الأوسط ولا حتى عارف بها. بدا كأنّه لم يحس بالإهانة: إهانة ألّا يسأل ولو مرةً عن روايته كعمل فني، وأن تصب كل أسئلة محاوره في مصب اعتبارها أطروحة سياسية عن العداء للسامية لدى العرب والمسلمين!