«لا أخوات لي» تكثيف لنظرة خاصة إلى العالم والأشياء. والحب يخيّم على أجواء الأنطولوجيا الشعرية التي صدرت عن «الهيئة العامة لقصور الثقافة» في مصر
حسين بن حمزة
الأعمال الكاملة والمختارات الشعرية تتيح للقارئ، فرصة النظر إلى التجربة الشعرية في امتدادها الزمني والمعجمي والتخييلي. وتتيح أيضاً معاينة نوعية المهارات والحِيَل التي استُدرجت إليها المفردات والصور لكي تنتهي القصائد إلى صياغاتها الأخيرة. بهذه الروحية نستقبل المختارات الشعرية التي صدرت في القاهرة لعناية جابر («الهيئة العامة لقصور الثقافة»). صفات الخفوت والدِّعة واللُّطف والرهافة والرِّقة التي لحظناها في أعمال عدة لها، تتراءى لنا الآن كعلامة شعرية مميِّزة وفارقة. لقد عاملت الشاعرة مفرداتها بكياسة لافتة فبادلتها المفردات بالمثل. لكن هذا التبادل العادل الذي غالباً ما يتحقق على مستوى الشعرية، يزيل الستر عن تبادل آخر، جائر وخفي. إذ هيهات أن يُكافأ الشعراء على تلطُّفهم بالكلمات. الشعراء الحقيقيون يبذلون قصارى لُطفهم لكي يعودوا بأكثر ما في المعنى من الألم والعزلة والفقد. اصطياد الشعر الجيد رهنٌ أصلاً بانتفاء أي أملٍ للشاعر بالكسب. كما يشير عنوان أحد دواوينها «مزاج خاسر»، الخسارة هي الجائزة الوحيدة التي يفوز بها الشعراء من رحلاتهم ومساعيهم المتكررة إلى سرقة نار الشعر. والشعر نفسه ما هو إلا عرضٌ للخسارة.
نقرأ مختارات عناية جابر، فنتأكد من افتتاننا الأول والقديم بشعرٍ مكتوب باقتضاب وكثافة وتقشف، على امتداد مجموعات سبع. بالكاد نشعر بتفاوت ونحن ننتقل من صفحة إلى أخرى. يُخيَّل إلينا أن صاحبة «ساتان أبيض» تكتب قصيدة واحدة. ثمة حساسية لغوية وتخييلية تُستأنفُ من قصيدة إلى أخرى. الشاعرة هي كائن القصيدة غالباً. كائن معذَّب برغباتٍ وآمال شاقة. البطولة المطلقة الممنوحة لها تجعل القصائد أقرب إلى ترجمة موفَّقة لنظرة شخصية إلى العالم والأشياء. الحب، بمعناه الواسع والمتعدّد الطبقات، هو الأكثر حضوراً. الحب هنا يتخلَّص من وقائعيته الواقعية والاستيهامية ويسعى ليكون شعراً مدهشاً وصافياً. أما لجهة كونه موضوعاً أو غرضاً فهو منجز وفق سلوكٍ شعري ينحرف به عن تقليديات الغزل المائعة والمكرورة. الحب هنا ليس عاطفة مفرطة تؤذي اللغة التي يُكتب بها. ثمة جهد مبذول لكتمِ أي جلبة يمكنها أن تشوَّه الأداء اللغوي الخافت والعصب المشدود للجملة الشعرية.
في قصيدة «دوار»، الحب هو «هذا الذي بدأ كمزحة/ توسّع كثيراً/ غدا مؤلماً/ بينما لم نفعل/ سوى الاستلقاء/ كملعقتين مصفوفتين»، وفي قصيدة «غباء» هو «قدماكَ قرب قدميّ/ ملطّختان بالليل ذاته»، وفي قصيدة «نوم يبرد في الأغطية» هو «ضعفي الرائع/ أنامني على باب بيتك/ ويصرُّ حلمٌ/ تحت جفنيّ».
لا يجد القارئ لغة منتصرة وظافرة، أسوة ببعض الشاعرات اللواتي يعتمدن لغة فجة واقتحامية، ظنَّاً منهن أن معارضة الرقة والخفوت تخلِّص هويتهن الأنثوية من استسلاميتها... فتكون النتيجة ضياع مرونة الجملة وتماوجها، وتبدو سريعة وهائجة وغير مكترثة بإنجاز شعر حقيقي. اللغة الهائجة غالباً ما تكون طافية فوق أعماق ضحلة. وأحياناً تبدو كأنها تعنيفٌ مجاني للغة نفسها.
في تجربة عناية جابر، ثمة حذرٌ من تصاعد الضوضاء على حساب المعنى السري والعميق للقصيدة. ونلاحظ أن الخفوت يستمر حتى حين تؤرِّخ القصيدة لمشاغل الجسد: «في فمي ما زال / طعم زمرُّد/ فلِمَ لا تُريني/ شيئكَ الغريب/ في حقلِ قمحكْ». أو: «حركة قليلة بعدْ/ جواهري ترقد/ تحت جبلٍ كبير». وأيضاً: «لستَ جميلاً/ لمَّا/ لا تحفل بشيئي المقرور/ يتواثبُ في الانتباه/ لسبَّابتكِ الماهرة».
الحب والجسد هما مدعاةٌ للألم، والألم لا يكون على حقيقته إذا علا ضجيجه. الشعر هنا لا يبتعد عن هذا التوصيف. في الكلمة التي وضعها الشاعر الراحل بسام حجار على الغلاف الأخير، نجده يخاطب القارئ المفترض بأطروحة تتبّنى بالمعنى نفسه: «هذا ليس كتاب النجاة. كلُّ نجاةٍ بالشعر كاذبة. سوف تقرأ، وعندما تفرغ من قراءة هذه القصائد، لن يزول ألمك، ولن تبرأ من حزنك أو خوفك أو لامبالاتك أو مساومات عيشكَ مع الأشياء...».