عالم شديد الثراء يسعى صاحب «غناء البطريق» إلى معاينته في كل عمل جديد. روايته «مئة وثمانون غروباً» (دار الساقي) تدور أحداثها في مكان اسمه الزهرانية مع تاريخ خفي يتوثَّق تحت سطح الأحداث، حيث الحرب والانقسام والعداوات التي تنمو بصمت
حسين بن حمزة
عندما يكون الأمر متعلّقاً برواية لحسن داوود، لا بدّ للقارئ من أن يُهيِّئ نفسه لإيقاعٍ يتلاءم مع الإيقاع الذي كُتبت به. قرَّاء داوود القدامى يعرفون هذا «الشرط»، ويهتدون بسرعة إلى الإيقاع المطلوب. روايته الأخيرة «مئة وثمانون غروباً» (دار الساقي) لا تشذُّ عن هذه الحال. المشكلة أنّ بعض القرّاء، حتى النقّاد، صاروا يستسهلون تناول أعمال صاحب «بناية ماتيلد» وفق هذه النظرة، المسبقة والكسولة التي تُعفيهم من معاينة عالم شديد الثراء يسعى داوود إلى إنجازه في كل رواية. لهذا، ولكي لا تنضمَّ قراءتنا هذه إلى ما بات «صفة مستديمة» لتجربة حسن داوود برمّتها، لا بد من القول إنّ هذه الصفة لا تُعمينا عن تحلّي روايته بكل عناصر الرواية الاعتيادية. ثمة تأنٍّ في السرد وبطءٌ، بل تبطيء، لأحداث هذا السرد. وثمة نبرة تشتغل تحت سطح الجملة الروائية. لكنّ هذا لا يُنسينا أن البطء والتأني والكثافة وجوّانية الكتابة... هي أجزاء من منظومة أسلوبيّة كاملة. ولن نبالغ إذا قلنا إنّ هذه السمات تمنح أعمال داوود نوعاً من الخلود في ذاكرة القارئ، مقارنة بأعمال أخرى لا يُبذل فيها جهدٌ مماثل في انتقاء كل كلمة ووضع كل تفصيل في مكانه. في «مئة وثمانون غروباً»، نحن مدعوّون إلى قراءة متمهّلة. علينا ألا نستعجل أحداث الرواية، بل ننتظر أن تُغرقنا الرواية نفسها في عالمها. إذا استجاب القارئ لهذه الفكرة، فستتحول قراءته إلى متعة تشبه متعة التأليف. عندما يتساوى إيقاعه مع الإيقاع الذي كُتبت به الرواية، سيُحسّ أنه يُؤلِّف النص مع الكاتب.
تدور أحداث الرواية في مكان اسمه «الزهرانية» يقع على طريق تقطعه سيارات عابرة في الاتجاهين. المكان الذي نشأ أولاً بمحال عدة تبيع سِلَعَاً يُخيَّل لأصحابها أنها قد تُوقِف أصحاب السيارات لشرائها، أضيفت إليه، بالتدريج، بيوت للسكن. الرواية تبدأ على لسان أحد الأبطال (يتفادى المؤلف تسميته). إنّه الأخ الأكبر لوليد. الاثنان يمتلكان محلاً للألعاب. الأول منزوٍ ومكتفٍ بمراقبة الحياة الصغيرة والرتيبة التي تدور حوله، والثاني منخرط أكثر في تلك الحياة. إذْ نتعرف من خلاله على جوزف وميخا وأنطوان. هناك عائلة أبو عاطف الملاصقة لسكن الأخوين، وعائلة أبو تيسير الأبعد قليلاً. تيسير الذي تلقّى في طفولته ضربة قوية على رأسه جعلته أقرب إلى المتخلفين عقلياً لا عمل له سوى النزول إلى المدينة لبيع العصافير حيث تتسلى سلمى ابنة أبو عاطف بإظهار ثدييها له من بلكون بيتهم. لكنّه حين يحطِّم رأس ميخا بحجر، فإنّه سينقل الحرب إلى داخل الزهرانية، بعدما كانت تصلها أصوات قذائفها من بعيد. المؤلف يوحي لنا إيحاءً غير مباشر ـــ وهي طريقته في كتابة الرواية كلها على أي حال ـــ أنّ تغيّرات مفصليّة أصابت بيئة الرواية. نادراً ما يُقحم حسن داوود أحداثاً كبرى أو منعطفات دراماتيكية في سرده. نبرته نفسها تَعافُ هذا النوع من الأحداث التي تصعِّب ضخامتها عمل هذه النبرة المفتتنة بابتكار سياق ومرجع وتأويل لأوهى تفصيل وأصغر نأمة.
الزهرانية بمجتمعها الصغير وعالمها الضئيل وحياتها المتغيّرة، ولكن الرتيبة في الوقت نفسه، هي بيئة ملائمة لنبرة هذا الروائي الذي يفضِّل أن يأخذ على عاتقه ملء فجواتها وشواغرها. لا ننسى أنّ بيئات كهذه حضرت في معظم أعمال داوود. نبرته المتأمِّلة لا تعرف كيف تشتغل أو تخدم في عوالم يعلو ضوضاؤها. البيئة هنا قد تعني مكان الرواية وزمانها مثلما تعني شخصياتها وأحداثها أو طريقة تناول كل ذلك. في الزهرانية، تبدأ الحرب، مثلاً، من لحظة توقف وليد شقيق الراوي الرئيسي عن مرافقة ميخا وجوزف في لهوهما وسهراتهما، وارتداء الأخيرَيْن لجاكيتات عسكرية ووقوفهما تحت عمود الكهرباء على الطريق.
بمعايير الرواية الاعتيادية، يكاد لا يحدث شيء في رواية حسن داوود. الأحداث، لأنها طفيفة. الشخصيات لأنها قليلة، التبدلات لأنها غير مباغتة... كل هذا يُسهِّل تقليب عالم الرواية على وجوه كثيرة. المؤلف قسّمها إلى ثمانية فصول، اثنان لوليد، وثلاثة لشقيقه، وفصل لسلمى، وفصلان لتيسير. تعدُّد الرواة يجعل عالم الرواية ذا طبقات وطيَّات عديدة. في الفصل الثالث المخصص لسلمى، مثلاً، يُعاد أمام القارئ ما كان شقيق وليد قد رواه في الفصل الأول. وفي الرابع ــ وهو أحد أجمل فصول الرواية ــ يعيد تيسير رواية حكايته مع سلمى. وفيه يخوض حسن داوود مغامرة سرد جزء من الرواية على لسان شخص لا يتمتع بالأهلية العقلية. لعلَّ هذا يذكّرنا بمونولوغ «بنجي»، الشخصية الخالدة في رواية وليم فولكنر «الصخب والعنف». لا نعرف إذا كان المؤلف قد فكَّر في هذا، لكنها فرصة لنتذكر أحد المعلّمين الكبار في فنّ الرواية. إذْ كثيراً ما انحاز صاحب «غناء البطريق» إلى مدوَّنة فولكنر التي تتقلص فيها مساحة الأحداث لصالح فتنة السرد والكتابة. بحسب هذه «الوصفة»، تتحقق الرواية بكيفية كتابتها لا بسياق أحداثها ومصائر شخصياتها. هكذا، يصير في استطاعة القارئ أن يفهم أنّ تلذُّذه بضجر الشقيقين في محل الألعاب وغرابة عائلة أبو عاطف وخصوصية شخصية تيسير، كان مصحوباً بتاريخ خفي يتوثَّق تحت سطح هذه الأحداث، حيث الحرب وانقسام الجماعات والعداوات التي نمت بصمت، وغيَّرت حياة سكان الزهرانية.