محمد خير «الديسك لغةً هو المكتب، واصطلاحاً هو المطبخ الصحافي، حيث يجري إعداد المواد الصحافية للنشر. التعريفان، اللغوي والاصطلاحي، لا معنى لهما الآن، وهما «باردان» لا يحملان حرارة المأساة ولا ألم الجراح. هل في الأمر مأساة وجراح؟ نعم، وكرامة عين»! التعريفان السابقان يذكرهما حمدي عبد الرحيم في كتابه «فيصل.. تحرير/ أيام الديسك والميكروباص» ( مدبولي ـــــ القاهرة) الذي صدر خلال معرض القاهرة للكتاب، فنفدت طبعته الأولى في أقل من شهر واحد. أما الميكروباص، فهو حافلة الأجرة التي تتسع لـ14 راكباً، ويعتمد عليها ملايين المصريين وسيلة للمواصلات (أفضل من الأوتوبيس وأرخص من التاكسي). لماذا يجمع عبد الرحيم بين الديسك والميكروباص في كتاب واحد؟ يقول في المقدمة «العبث، ولا شيء غيره. نعم هو العبث الذي يجعل السلطة التنفيذية تهدر حديقة أثرية لمصلحة الميكروباص، والذي يرغم الديسك على تحرير صفحات لا علاقة لكتّابها بالكتابة».
لكنّ وراء ذلك «العبث» ما هو أكثر جدّية، فكلاهما الميكروباص والديسك «وجهان لعملة واحدة يدلان معاً على متغيّرات اجتماعية وثقافية وسياسية»، على حد قول المؤلف. راح هذا الأخير ــــــ عبر لغة ساخرة خفيفة الظل ــــــ يتتبع تدهوراً لحقَ بحياة المصريين، يقدم منه ملمحاً عاماً عما لحق بوسيلة المواصلات الأهم لدى الطبقة الوسطى، ثم ملمحاً عما عاناه المؤلف كواحد من أبرز «الديسكاوية» في الصحافة المصرية. عمل طويلاً في تجارب صحافية مستقلة وحزبية ومعارضة، انحدرت فيها مهمات رجل الديسك من مرحلة التلميع (حذف كلمة هنا أو إضافة كلمة هناك، أو تدقيق معلومة أو تصحيح لغة) إلى مرحلة «غسيل» لكتابة تلطخ ثوبها بكل أنواع الأخطاء، فوجب على الديسك أن يغسل الثوب ليبدو في صورة لا تدل على حقيقته/ أصله أبداً.
ليس غريباً إذًا أن انتشرت بين محرري الديسك دعوة هي «اللهم تب علينا من خدمة البيوت». وإذا كان ذلك الانحدار قد لحق بمهنة الديسك نتيجة الضعف الذي لحق باللغة الصحافية، فإن الميكروباص بدوره ليس استثناءً من عموم الانحدار. انحداره بدأ مع حكومة عاطف عبيد بإهمال متعمّد لصيانة الحافلات العامة، ثم رفع أسعار تعريفة الركوب، الأمر الذي أوجد فراغاً جاهزاً لتملأه جحافل الميكروباص.
في فصلين من أجمل فصول الكتاب وأطرفها، يقسّم المؤلف سائقي الميكروباص إلى أنواع منها «الثوار، الدجاج، المعاش، المستغني»، ثم يصنّف الركاب إلى 13 نوعاً منها «الذاهلون، المناكفون، المختالون، الموبايليون».
ليس ذلك تقسيماً عابراً، بل مفتاح ضروري لفهم الفصول التالية، المليئة بمشاهدات الكاتب في ميكروباصات «التحرير فيصل»، في الفترة من كانون الثاني (يناير) إلى تموز (يوليو) 2007. حكايات لا تكاد تصدّق، ومعارك ربحها الركاب ضد السائقين، وأخرى خسروها. ينتهي الكاتب كل يوم من رحلة المواصلات إلى مكتب الديسك، تنتظره موضوعات صحافية يندر أن تتمتع بلغة مستقيمة، بعضها يُقبل محرر الديسك على عنونتها باستمتاع، وأخرى يفرّ منها فرار السليم من الأجرب. وبين هذا وذاك، يتعرّف القارئ على أوجاع الصحافة المصرية، وأبرزها أنّ صحفاً مستقلة ليست حقاً مستقلة، وصحفاً معارضة قد لا تحتمل ــــــ أحياناً ــــــ وجود معارضين حقيقيين.