في كتابها «الأنثروبولوجيا والأنثروبولوجيا الثقافية: وجوه الجسد» تتعمّق الزهرة إبراهيم في دراسة الجسد كدلالة ثقافية تبعاً لما أفرزته الحداثة، مروراً بالقناع والدمية وتوظيفهما المسرحي والسياسي
خليل صويلح
كيف نقرأ الجسد أنثروبولوجياً؟ سؤال تطرحه الزهرة إبراهيم في كتابها «الأنثروبولوجيا والأنثروبولوجيا الثقافية: وجوه الجسد» (دار النايا ـــــ دمشق). تسعى الباحثة المغربية إلى تفكيك الصورة القديمة للأنثروبولوجيا بوصفها ثقافةً احتوائيةً، وفقاً لتوصيف إدوارد سعيد، والانتقال بها إلى حقلٍ مضاد للكولونيالية يُنصِف «نصوص الهامش» ويخلِّصُها من صفتها الفولكلورية القديمة. في السياق نفسه، تحاول الباحثة خلخلة المنظور المثالي لمفردة أنطولوجية الجسد الإشكالية.
سعت دراسات الأنثروبولوجيين الجدد إلى إعادة الاعتبار للجسد بوصفه دالاً ثقافياً يتعدّى العقلاني إلى مظاهر أخرى كاللباس والحلي والوشم والعري، بوصفها طبقات نصيّة تشتغل داخل المتن، «فتنبجس منها بلاغة مثيرة ترقى إلى مستويات شعرية واستعارات متعارضة». هذه الطبقات وصلت عن طريق الجراحة التجميلية إلى تثوير نظرة الإنسان إلى جسده، وصار الجسد الأنثوي خصوصاً «مقاولة للاستثمار في مشاريع مربحة، تمتد من الفيديو كليب إلى الدعارة».
ثنائية الجسد والعري إذاً تمثّل أحد إفرازات الحداثة في مقاومتها لحقبة طويلة أخضعت الجسد لقسرية الستر والإخفاء. ظاهرة «الهيبيز» في السبعينيات من القرن المنصرم مثلاً، تجسّد عصياناً صريحاً على قمع الجسد. وترى الزهرة إبراهيم أن التمرّد على اللباس اتخذ صيغاً شتى أتت من اشتهاء إيروسي أولاً، لينتقل تدريجاً إلى مراحل أكثر جسارةً تتمثل في العري التام أو الجزئي للجسد الحداثي، وصولاً إلى الجسد الموشوم، بعيداً عن الطوطمية القديمة.
وتنتقل الكاتبة إلى «القناع»، في توظيفه كاستعارة شعرية. قناع المرأة في المجتمع الإسلامي يصونها من النظرة الإغوائية للرجل، وأحياناً يؤدي دور الإغواء مباشرة إذا استعملته جارية. أما قناع المحارب «الخوذة»، فهو إشارة إلى قوة النزال والفروسية. وتشير الكاتبة إلى أنّ أول قناع محسوس هو ذلك الذي نعثر عليه في شعرية أرسطو، وفي المسرح الإغريقي عموماً، وصولاً إلى تطابقه مع مفهوم الشخصية في الكتابة الروائية. هذا الأمر أخرج القناع من دائرة المقدس إلى دائرة الفن، وخلّصه من أسطوريته وشعائريته الدينية، كما حررّ الجسد المسرحي من ارتباك الوجه باعتباره علامةً مسرحيةً. هكذا عبرَ القناع برازخ كثيرة ليحطَّ أخيراً على خشبة المسرح، بتلوينات ومرجعيات متباينة. قناع ممثّل «الكوميديا دي لارتي» مثلاً، لا يتقاطع مع مفهوم القناع لدى بريخت أو بيتر بروك بعد اطلاعه على تجارب المسرح الشرقي. هنا يتماهى القناع مع شخصية الممثل، فيما يتعامل الممثل الأوروبي مع قناعه بسطحيةٍ وبرّانية. صورة القناع في نسختها الحداثية تتمثل بارتداء القناع كلغة إشهارية ومظهر استهلاكي يكثر الإقبال عليه في التظاهرات السياسية والمباريات الرياضية والكرنفالات الشعبية من موقع المعارضة أو التأييد. وتلفت الزهرة إبراهيم إلى نقطة جوهرية أخرى، هي التقاطع بين اللباس والقناع من جهة، والعري من جهةٍ ثانية، فكلاهما، أداة تنكرية، ونقطة التلاقي بين هذه الأنساق المتباينة نجدها في «متوالية القراءات والتأويلات التي لا تخلو من نشوة الكشف التي تثيرها فينا الأشياء الغامضة».
ولكن ماذا عن الدمية؟ من منظور مسرحي وأنثروبولوجي، فإن الدمية مثل القناع فرع، والجسد أصل، وهذا ما يقود الكاتبة إلى التوغل في منشأ الدمية وشيوعها وتحولاتها من المقدّس إلى المدنّس. وإذا كان من الصعب تحديد تاريخية نشوء الدمية، فإن أقدم المراجع تشير إلى أن ميلاد الدمية يعود إلى القرن العاشر قبل الميلاد، في آسيا، ثم في مصر، وصولاً إلى ظهور «دمى الظل» في تركيا، وهناك من يعيدها إلى مسرح الدمى الإغريقي والروماني. مهما يكن، فإنّ الدمية دخلت باب المحرّم بوصفها صنماً أو صورة، لكنّها في المقابل رفدت المسرح بأشكال تعبيرية جديدة، مثل خيال الظل ومسرح العرائس، ومسرح الدمى الياباني. وعلى صعيد أنثروبولوجي، باتت الدمية رمزاً سياسياً حيوياً، إذ يوصف بعض رجال السياسة بالدمى التي تحركها أصابع خفية. وتحوّلت الدمية إلى وسيلة تفريغ للشعوب المقهورة، وذلك باستعارة صور الحكام الديكتاتوريين والتنكيل بها في التظاهرات. وإذا كان القناع وجهاً مخادعاً، فإن الدمية مثّلت على الدوام جسداً هامداً لا حياة فيه.