«قيثارتان» تعلنان انبعاث الأغنية الملتزمة السوريّة

الألبوم يطغى عليه منحى ملحميّ، تولّى توزيع أغنياته عاصم مكارم وزياد حرب، وشاركت في أدائها سهير شقير. تحيّة إلى صاحب «قصيدة بيروت» من الفنان السوري الذي يمضي في اتجاه سياسي وإبداعي رسمه لنفسه قبل ربع قرن

بشير صفير
إذا أردنا أن نكتب باختصار سيرة الأغنية الملتزمة (السياسية، الاجتماعية، الثورية...) في الوطن العربي عبر أبرز محطاتها ورموزها، وأكثرها انتشاراً وتأثيراً منذ النكبة، فيمكن القول إنّ الانطلاقة كانت مع فنانين لم ينحصر نتاجهم في هذا النمط. في المقابل، وَلّد اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية حالة خاصة وغنيّة من الفن الملتزم (اليساري تحديداً)، لأسباب عدّة باتت معروفة، وأنتجت قُبَيلها وخلالها عدداً لا بأس به من الأسماء التي التزمت القضية الفلسطينية خصوصاً أو القضايا الإنسانية عموماً: غازي مكداشي، خالد الهبر، مرسيل خليفة، زياد الرحباني، أحمد قعبور، سامي حوّاط، مخول قاصوف، وغيرهم. وفي مصر يبدو الثنائي الشيخ إمام عيسى/ أحمد فؤاد نجم طاغياً على كل ما عداه، رغم كثرة التجارب الشبابيّة والمخضرمة المهمّة وغيرها منذ أكثر من قرن... أما بالنسبة إلى سوريا، فيمكن حصر المشهد في اسم واحد، هو سميح شقير.
لاعتبارات عدّة خاصة بالوضع السوري، يمكن وصف خيار سميح شقير بالاستثنائي بل بالجريء إلى حدٍّ ما، وذلك لأن صاحب «زهر الرمان» لم يكن ذاك الفنان الذي تحاشى «الشُبهَة» أو «الصبغة» في توجّهاته، وإنْ لم يتناول قضايا داخلية أو ممارسات محدَّدة. صحيح أنّه التزم غناء الحرية ومعاناة الإنسان عموماً، والقضية الفلسطينية أولاً وأخيراً، لكنه لم يُحسَب على اليسار فحسب بل على الشيوعيين في الدرجة الأولى. والدليل على ذلك يأتي من لبنان. إذ إنّ «صوت الشعب» أي إذاعة الحزب الشيوعي اللبناني، هي الوحيدة (على الأرجح) التي كانت وما زالت تبثّ أغاني سميح شقير بوتيرة تختلف نسبةً إلى ظروف الصراع العربي/ الإسرائيلي. وإذا لم يكن هذا دليلاً كافياً، نضيف إليه مشاركة شقير في احتفالات الحزب الشيوعي اللبناني في الذكرى الثمانين لتأسيسه (2004) حيث غنّى في الجنوب وبيروت (قصر الأونيسكو).
بدأ سميح شقير مسيرته الفنية عام 1982 وأصدر مجموعته الغنائية الأولى «لمَن أغنّي» عام 1983، تلتها جولة حفلات في سوريا ولبنان. في 1984، صدر ألبومه الثاني «بيَدي قيثارة» وبعده «حناجركم» (1985) و«وقْع خطانا» (1987) و«زهر الرمان» (1990). بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، غاب سميح شقير نسبياً عن الساحة الفنيّة العربية، فغادر إلى أوكرانيا حتى عام 1994، وقدم معظم حفلاته في الخارج قبل أن يعود إلى وطنه ويكتب موسيقى عدد من الأعمال المسرحية والدرامية السورية. وفي 1998، أصدر أسطوانة «زماني» وقدّم خلال السنوات الأخيرة حفلات عدة في أوروبا وأستراليا والولايات المتحدة وأميركا اللاتينية والوطن العربي، أبرزها المشاركة الغنائية ضمن «مهرجان إيقاعات الخريف» في رام الله التي بُثَّت مباشرة عبر الأقمار الاصطناعية (2006).
شأنه شأن معظم الفنانين الملتزمين اللبنانيين (سامي حواط، أحمد قعبور، زياد الرحباني،...) وظّف سميح شقير فنّه في خدمة الأطفال، فأصدر «تنورة» و«تفاحة» (2001)، و«يا باح ويا باح» (2007) ووضَع موسيقى فيلم «من العين إلى القلب» (2007).
أما جديد سميح شقير، فهو ألبوم «قيثارتان» (إنتاج سميح شقير والتوزيع في لبنان لـ «نادي لكل الناس»). بعد أكثر من عشر سنوات على صدور عمله الأخير (باستثناء تسجيلاته للأطفال)، يضيف الفنان السوري مجموعة غنائية جديدة إلى رصيده، أرادها تحيةً إلى الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش. في «قيثارتان» لحّن شقير وغنّى 11 قصيدة من شعر درويش، تولى توزيعها موسيقياً عاصم مكارم وزياد حرب، وشاركت فيها غناءً شقيقته سهير شقير. «تنسى» و«شجر السَرو» و«بيروت خيمتنا» و«سقط القناع» و«قيثارتان» وغيرها من القصائد، تنضم إلى العديد من كتابات الشاعر الفلسطيني التي أصبحت أغنيات بأصوات فنانين عرب، بعضها سبق أن لحنه آخرون (مرسيل خليفة، خالد الهبر، إيلي شويري...).
ما زال صوت سميح شقير مميّزاً بما يحمل في نبرته من آثار الإحساس بالمعاناة التي يغنيها، وما زال يسير في الخط الذي رسمه منذ أكثر من ربع قرن. لكنّ جديده يتخذ منحىً ملحمياً عاماً، ويعطي الصدارة للقضايا الكبرى، لحناً وتوزيعاً، على حساب الحميمية والبساطة. وهذه التجربة التي تقترب من ألبوم «خالد الهبر يغني محمود درويش» (1996)، ربّما تستند في خلفيّاتها إلى النصوص التي لا يشبه بنيانها نص الأغنية بشكلها الكلاسيكي. ليس في هذا مشكلة، لكن التوزيع الموسيقي الذي أتى أوركسترالياً ضخماً (يأخذ فيه عود شقير حيزاً ضيقاً)، طغَتْ عليه الأصوات المبرمَجة (باستثناء أغنية «قيثارتان» التي اقتصرت فيها المرافقة الموسيقية على آلتَيّ غيتار). وعلى رغم كلاسيكية الكتابة الهارمونية التي يمكن اعتبارها محافظة نسبة إلى النِتاج الغربي، وغير جديدة إنّما غير مستهلَكة في الشرق، تخلّلت التوزيع جملٌ جيدة ومناسِبة (وأخرى عادية)، لكن طبيعة صوتها خفّفت من حضورها. تماماً بخلاف الهبر الذي رافقته أوركسترا «حقيقية» (التوزيع الموسيقي لزياد الرحباني)، مقدماً في تجربته نموذجاً أعقد شكلاً وأدقّ تنفيذاً.