يبقى البحث عن جذور عربيّة لفنّ الرواية، مسألةً جدليّة. من خلال كتابه «الرواية والتراث السردي، من أجل وعي جديد بالتراث»، يعود الباحث المغربي إلى مفهوم التعلّق النصي في أعمال أدبيّة استوحت المرجعيات القديمة
الرباط ـــ محمود عبد الغني
يحيلنا كتاب «الرواية والتراث السردي، من أجل وعي جديد بالتراث» (المركز الثقافي العربي ـــــ 1992) لسعيد يقطين إلى قضية تجاوز الرواية لنفسها باستمرار، بحثاً عن مجموعة مركبة من الأصول. يثير ذلك مجدّداً قضية غياب الرواية في تراثنا الأدبي مقارنةً بالحضور الطاغي للشعر. والرواية نشاط ذهني معارض شكّاك، لا يتعب من المراجعة، إذ يصبح الكاتب مجنون أنشطة فكرية غريبة عنه.
غير أن الأدب يستعيد حيويته المفقودة عندما يعود إلى الماضي، وهذا ما كتبته حنة أرندت عن هايدغر: «أحدهم، إذ انفصل الحبل الذي يشدّه إلى التراث، اكتشف الماضي من جديد، فاستعاد الفكر حيويته، وتمكّن من استنطاق الذخائر الثقافية للماضي، تلك الذخائر التي كنا نعتقد أنها ماتت». كذلك الروائي العربي الذي يدرسه يقطين، اكتشف ماضيه من جديد، واستنطق كنوزه الثقافية في اللحظة التي انقطع فيها الحبل الذي يشدُّه إلى التراث، وعادت الحياة للتقليد عن طريق التحديث، أو ما يسمّيه نيتشه إنارة المستقبل للماضي.
لكن الإصرار على تجنُّب التراث يوقعنا أحياناً في التراث. واستمرار الإيمان بتفوقنا «الحضاري» قد يجعل الكاتب في قلب الخرافة. تقع رواية التركي الحائز جائزة نوبل أورهان باموق «اسمي أحمر» في قلب القضية التي عالجها يقطين في كتابه، قضية الانطلاق مع النص القديم لكتابة نص حديث. تتحدّث هذه الرواية عن الفن التشكيلي الإسلامي، وعنوانها مستمد من اللون الأحمر الأكثر استخداماً في الرسم الإسلامي. كتب صحافي إنكليزي: «أورهان باموق روائي تركي شاب يعلِّم أوروبا كيف تكتب الرواية». استطراداً، كلّ كاتب عربي أعاد الوصل بالذخائر العربية يعلم كتّاب العالم كتابة الرواية، ولا أدل على ذلك من اعتراف الروائي الأرجنتيني بورخيس بأهميّة الذخائر السرديّة العربيّة في صياغة المخيّلة، بل صياغة شكل المخيّلة نفسه.
هذا أمر لا يقتصر على عدد محدود من العناوين التي اعتاد القارئ العربي أن يختزل بها قروناً من السرد. أشعرنا الناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو بالإحباط حين أكد أنّه «إذا طلبت الآن من قارئ عربي أن يذكر لك نماذج من السرد العربي الكلاسيكي، فإنه سيتذكر المدرسة الابتدائية ويقول لك: «كليلة ودمنة»، «رسالة التوابع والزوابع»، «المقامات»، «رسالة الغفران». وبعد ذلك يسكت ولن تستطيع أن تنتزع منه عنواناً آخر». يؤكد كيليطو أنّ لا أحد خطر في باله كتابة تاريخ للسرد العربي. زد على ذلك شيوع الفهم الضيق لمفهوم التخصّص. مَن يدرس «ألف ليلة وليلة» مثلاً يتجاهل تاريخ الطبري ورحلة ابن بطوطة وكتب التراجم والسيرة الذاتية. من هنا يكتسب سعيد يقطين أهمية استثنائية في الأدب العربي. كتاب «الرواية والتراث السردي» لا يُغني معجم المفاهيم العربي فحسب، بل يتثبت شرعية أدبية وفكرية على نصوص من سردنا القديم، عبر دراسة روايات لاحقة تعلقت نصياً بمتون سابقة وكتبها بطريقة جديدة.
درس يقطين رواية نجيب محفوظ «ليالي ألف ليلة» من زاوية علاقتها بـ«ألف ليلة وليلة»، إذ عمل محفوظ على ترهين الليالي من خلال الرواية، كما فعل قبلاً مع رحلة ابن بطوطة في رواية «رحلة ابن فطومة». ومن خلال المنهج نفسه، درس رواية واسيني الأعرج «نوار اللوز» التي ركّز فيها على تعلّقه بـ«السيرة» كنوع سردي له ملامحه الشعبية، لكنّه تجاوز ذلك إلى «المعارضة» التي تبرز عبر نبرة السخرية والسخرية اللاذعة. ومن خلال مفهوم «التعلق النصي»، عالج يقطين رواية أمين معلوف «ليون الأفريقي» التي تتعلق بكتاب «وصف أفريقيا» للحسن بن الوزان. كما قارن بين «ليون الأفريقي» ورواية «الزيني بركات» لجمال الغيطاني التي تتعلق نصياً بالكتاب التاريخي لابن إياس «بدائع الزهور في وقائع الدهور». الروايتان تتطرقان إلى واقع الأمة العربية في زمن صراعها مع العثمانيين في المشرق، ومع الإسبان في المغرب إلى حين احتلال القاهرة وسقوط بعض الموانئ المغربية.