خمسة كتّاب وكاتبة «نجوم» الموسم الروائي


محمد شعير
من يَفوز بجائزة «بوكر» العربية؟ لا أحد يستطيع التنبؤ هذه الدورة. بورصة التكهنات وخبراء لجان التحكيم لم يتفقوا على شيء حتى الآن. حتى أمس، كانت التوقّعات تصب في مصلحة «عزازيل» ليوسف زيدان. يدعم هذا التصور استطلاع أجراه الموقع الرسمي للجائزة، إذ حصلت الرواية على 40 في المئة، تليها «الحفيدة الأميركية» لإنعام كجه جي، ثم «جوع» لمحمد البساطي، فـ «زمن الخيول البيضاء» لإبراهيم نصر الله ثم «المترجم الخائن» لفواز حداد، وأخيراً «روائح ماري كلير» للحبيب السالمي. آراء الجمهور مشكوك في صحتها لأنّه بإمكان أيّ كان التصويت مرات عدّة وترجيح كفة رواية على أخرى، وهو ربما ما فطنت إليه هيئة الجائزة، التي أشارت أنّ التصويت الإلكتروني لا يؤثر في النتيجة.
علينا البحث عن وسيلة أخرى. قد تكون قراءة «مزاج» لجنة التحكيم واختياراتهم السابقة. تضمّ اللجنة 5 أعضاء: رئيسة اللجنة اللبنانيّة يمنى العيد، والباحث المصري رشيد العناني، والمترجم الألماني هارتموت فندريش، والكاتب الإماراتي محمد المر، والإعلامي الأردني فخري صالح، لكن يصعب قراءة ما يدور في أذهانهم: أولاً لتبنّيهم مناهج نقدية مختلفة، كما أنّ الروايات المرشحة تتقاطع في مناطق كثيرة. إذا دخلنا من باب السياسة، فسنجد أنّ إنعام كجه جي تحكي الاحتلال الأميركي للعراق، ويتناول إبراهيم نصر الله القضيّة الفلسطينية، ويرصد محمد البساطي أحوال عائلة عربية في زمن القمع والدكتاتورية. حتى رواية يوسف زيدان يمكن اعتبارها «رواية ضد الأصولية الدينية». ويرصد فواز حداد حالات الفساد الثقافي، فيما يقارب الحبيب السالمي «تلك العلاقة المعقّدة بين الشرق والغرب».
وإذا نظرنا من الزاوية الفنيّة، فسنجد عند البساطي تلك الحفاوة بالصمت ونعومة الكتابة عن العوالم الخشنة. كذلك «المترجم الخائن» التي تتقاطع مع رواية معروفة لساراماغو بعنوان «كل الأسماء». ولن نعدم ملامح فنية مميزة في بقية الأعمال أيضاً. ويبدو أنّ المواجهة الأخيرة بين أعضاء لجنة التحكيم، ستدور تحديداً حول «فنيّة» العمل الفائز، وهناك من يقف ضدّ فوز إنعام كجه جي مثلاً رغم ميل كبير إلى التعاطف معها بسبب موضوعها. بل تسرّب كلام عن «مشكلة» قد تنتقل إلى الساحة العامة إذا فاز العمل بأكثريّة الأصوات!
السلطة العربيّة، دينيّة ومدنيّة، حاضرة بقوّة أيضاً، بصفتها عائقاً لحريّة الأفراد: بطل «روائح ماري كلير» ممنوع من دخول بلاده. الجدل الصاخب الذي أثارته «عزازيل»، ربّما زاد من حظوطها في الفوز، وإن كان بعضهم يرى أنّ «بوكر» قد يصعب أن تذهب إلى رواية «اعترضت عليها الكنيسة»، وخصوصاً أنّ الجائزة ما زالت في بداياتها ولا تريد إثارة الغبار حولها عبر تدعيم أعمال خلافية. كما أنّ هذه الرواية صدرت عن «دار الشروق» المصرية التي حصلت العام الماضي على الجائزة عبر «واحة الغروب» لبهاء طاهر، وربما استهجن بعض أعضاء لجنة التحكيم أن تحتكر الجائزة دارٌ واحدة. هناك من يذكّر بأنّ جائزة العام الماضي ذهبت إلى كاتب مصري، وقد لا تذهب إلى مصري آخر هذه الدورة. وهذا ينطبق أيضاً على البساطي. لكن بين أعضاء لجنة التحكيم مَن يرفض أي تصنيف جغرافي، معتبراً أن فنيّة العمل هي الاعتبار الوحيد (راجع الحوار مع يمنى العيد صفحة 20 ـــ 21).
إلى مَن ستذهب الجائزة إذاً؟ علينا الانتظار ساعات فقط، كي نعرف إذا كانت «بوكر» ستذهب إلى عمل مزعج دينياً/ سياسياً أو عمل متقن أدبياً، إلى شاب أو مكرّس، مغاربي أو مشرقي، امرأة أو رجل، منفيّ أو مقيم في ربوع الوطن...


والرواية الفائزة هي...

في 2007، أُعلِن رسمياً في أبو ظبي إطلاق «الجائزة العالمية للرواية العربية ــــ بوكر العربيّة»، بدعم من «مؤسسة الإمارات» و«جائزة بوكر» البريطانيّة. منذ ثلاثة أشهر، التأمت لجنة تحكيم الدورة الثانية في «ساوث بانك سنتر» (لندن)، برئاسة يمنى العيد، وعضويّة رشيد العناني (مدير معهد «الدراسات العربية والإسلامية» في جامعة «أكستر»)، والمترجم الألماني للأدب العربي هارتموت فندريش، والكاتب الإماراتي محمد المرّ رئيس «مجلس دبي الثقافي»، والناقد والصحافي الأردني فخري صالح المتخصص في الأدب العربي المعاصر. وأعلنت العيد، بحضور جوناثان تايلور رئيس مجلس الأمناء، اللائحة القصيرة للجائزة: «زمن الخيول البيضاء» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) لإبراهيم نصر الله، «المترجم الخائن» (دار الريّس) لفواز حداد، «جوع» (دار الآداب) لمحمد البساطي، «روائح ماري كلير» (الآداب) للحبيب السالمي، «الحفيدة الأميركيّة» (دار الجديد) لإنعام كجه جي، «عزازيل» (دار الشروق) ليوسف زيدان. اختيرت العناوين بين 16 عملاً ضمتها القائمة الطويلة، بينها العراقي علي بدر («حارس التبغ»)، واللبنانيّان ربيع جابر («الاعترافات») ورينيه الحايك («صلاة من أجل العائلة»)، والمغربي سالم حميش («هذا الأندلسي»)، والليبي إبراهيم الكوني («الورم»)... وينال كل عمل بلغ اللائحة القصيرة مبلغاً قدره 10 آلاف دولار أميركي. كما يترجم إلى الإنكليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية. بقي أنّ الرواية الفائزة (50 ألف دولار أميركي) تُعلن الليلة خلال حفلة رسميّة في أبو ظبي، عشية انطلاق «معرض أبو ظبي الدولي للكتاب».

عن «بوكر» والقضايا الكبرى



نوال العلي
العام الفائت، فاز بهاء طاهر بـ «بوكر» عن «واحة الغروب» التي طرحت فهمها الخاص لعلاقة الغرب والشرق. إنّها رواية تاريخية تناقش إحدى المسائل التي تستحوذ على الوعي العربي! كذلك الروايات التي بلغت القائمة القصيرة، تحمل ما دُرج على تسميته القضايا الكبرى. أذكر تعليقاً لأحد أعضاء اللجنة العام المنصرم: « لسنا في حالة رفاهية فكرية، نحتاج إلى أدب ينتقد المجتمعات ويتناول القضايا الكبرى» من الهوية إلى الإرهاب والأصولية.
وباستعراض الروايات المرشّحة هذه الدورة، نجد أنفسنا أمام مسألة الغرب والشرق. بل إنّ وصول بعضها يثير الاستغراب، أمام تنحية روايات متقنة أخرى كأعمال رينيه الحايك أو سالم حميش. هل تمكن قراءة منطق لجنة تحكيم «بوكر» باستعراض العناوين المُستبعدة من المنافسة؟
إنعام كجه جي في «الحفيدة الأميركية» تمسك العصا من الوسط بالضبط و«روائح ماري كلير» يصوّر فيها الحبيب السالمي حال المثقف العربي أمام المرأة الغربية المتحرّرة. وإذا انتبهنا إلى أنّ هدف «بوكر» توسيع دائرة قرّاء الأدب العربي عبر ترجمة الأعمال، هل هذا يعني أن اللجان تضع في اعتبارها رغبات القارئ الغربي؟ وفي ظل ثقافة الانهزام التي تعيشها المجتمعات العربية، هل نحاكم الإبداع على القيم التي يحملها أم من منطلقات فنّيّة؟ ولو افترضنا أنّ مبدعاً كتب روايةً عظيمةً عن عجز جنسي، هل نتوقع أنّ يرشّحه أحد؟

الكنيسة رأت في روايته «أخطاءً تاريخية» يوسف زيدان: قضيّتي الإنسان



لم يتوقّع يوسف زيدان أن تثير «عزازيل» هذه الضجة. تماماً كما لم يتوقع أن تبلغ قائمة «بوكر» القصيرة. الرواية هي الثانية لرئيس مركز المخطوطات في مكتبة الإسكندرية، يدخل فيها منطقةً شائكة في تاريخ الكنيسة: فترة الصراعات المذهبية واضطهاد الوثنيّين بعدما استقرّت المسيحيّة. الكنيسة رأت في الرواية «أخطاءً تاريخية» وهدّدت باللجوء إلى القضاء لمنع تداولها. وامتدّ الجدل ليشمل فئة متعصّبة من المسلمين رأت في النص «إدانةً للمسيحية». يُخرج زيدان من مكتبه بياناً كتبه بعض الأصوليين بعنوان «حملة لمكافحة الأقباط». يقول: «كتبتُ نصاً إبداعياً لإدانة العنف باسم الدين، إذا به يصير مستنداً لمواقف عنيفة». وثمة آراء أخرى رأت أنّ النص هو «شفرة دافنشي» مصرية وهو ما يعدّه زيدان «إهانةً لنصه لأنّ «شفرة دافنشي» لم تخرج عن كونها رواية بوليسية توسّلت في حبكتها قصة كنسية أو حدوتة في التراث المسيحي، لكن «عزازيل» شيء آخر. ليست مغامرات ومخايلات ولم تكتب لتكون سيناريو فيلم سينمائي».
لم تكن دهشة زيدان من الهجوم الذي صاحب الرواية فقط، بل من استقبالها. إذ صدرت في ست طبعات حتى الآن. هل السبب أنّه دخل منطقةً شائكةً في تاريخ الكنيسة؟ يجيب: «روايتي الأولى «ظلّ الأفعى» أخطر من «عزازيل» وأكثر جرأة على مستوى بنية التأليف الروائي. لكن ربما لأنّ مستويات الدلالة كانت من العمق بحيث غابت عن كثيرين».
صاحب «التراث المجهول» معروف في الوسط الثقافي المصري، باعتباره باحثاً في التراث ألّف وحقّق حوالى 60 عملاً في تاريخ العلوم والفلسفة والتصوّف، لكن ما الذي دفعه إلى خوض المجال الروائي متأخراً، يضحك: «الكتابة فعل واحد متعدد الأشكال. وعندما صدرت «ظل الأفعى»، كتب جمال الغيطاني: أخيراً استجاب يوسف زيدان لدعوتي وكتب الرواية». ويضيف: «في ثقافتنا خطأ تكتيكي هو أنّ الأدباء يبدأون حياتهم بكتابة الرواية وهذا غير مأمون العواقب، لأنّ الرواية تحتاج إلى معرفة ضخمة وتأملات كثيرة تمثّل الخلفية التي ينطلق منها العمل الأدبي. صحيح أنّ هناك مبدعين موهوبين في القصّ والحكي أو الأسلوب، لكن هذه بعض مكوّنات التأليف الروائي. من دون المعرفة والاشتباك مع اللغة والخبرة الطويلة في الوعي بالأشياء، لا يمكن إنتاج رواية جيدة». في أي جيل يصنِّف نفسه؟ يجيب: «لا أؤمن بعمليّات التصنيف. أراها نظرة بائسة كسولة تضع الناس في قوالب معلومة، نوعاً من الاستسهال والنمطية السخيفة».
لم يكتفِ زيدان بالنجاح الذي حقّقته «عزازيل»، بل ها هو يعود مرةً أخرى إلى أبحاثه لينتهي من آخر أعماله «اللاهوت العربي»، وهو عمل قد يثير ضجةً أكبر. إذ يسعى الكتاب إلى إعادة النظر في الاجتهادات التي وصفتها الكنيسة الأرثوزكسية بالهرطقة، والنظر إليها باعتبارها اجتهاداً لاهوتيّاً عربياً سبق الإسلام، وامتد بعده في ما يُسمّى علم الكلام.
لكن أين الراوية؟ هل سيغادرها موقتاً؟ يفاجئنا بأنّه أوشك على الانتهاء من روايته الثالثة «النبطي»، التي تتناول «الفتح الإسلامي لمصر». وهي أيضاً فترة ملتبسة قد تُغضب المتعصبين من الجانب الإسلامي هذه المرة. يقول: «أتمنى ألا يحدث ذلك. لست ميالاً إلى تلك الأجواء الصاخبة التي تعوق مشروعي الفكري. قضيتي على مستوى الخطاب الروائي هي الإنسان الموجود على مدى هذه المراحل التاريخية التي هي بطبيعتها مراحل متصلة، سواء شئنا أو أبينا».

محمد البساطي... على باب الله



محمد شعير
للجوائز في حياة محمد البساطي «تاريخ» يستحق أن يُروى. عندما بدأ الكتابة، قرأ عن مسابقة «طه حسين للقصة» التي ينظمها «نادي القصة» في مصر. كان ذلك في 1962، فأرسل قصته الأولى «الهروب» بعدما استدان ربع جنيه رسوم الاشتراك، ليفاجأ بحصوله على الجائزة الأولى! «ستون جنيهاً، وميدالية ذهبية محفور عليها صورة عميد الأدب العربي طه حسين، وفوق ذلك مقابلة جمال عبد الناصر الذي سيسلّم الجائزة للفائز». ثلاث جوائز لم يتوقّع أياً منها، واهتمام إعلامي به، ولمّا ينشرْ أيّاً من قصصه: «كادت تصيبني لوثة عقليّة، حتى إنّ أحد الصحافيين سألني وقتها: قرأتَ طه حسين؟ فأجبته: طه حسين مين؟».
حكايات البساطي تكشف عن جانب مهمّ من شخصيّته: تلك السخرية التي يخبِّئها دائماً خلف خجل ريفي لم يتخلّص منه رغم إقامته في القاهرة لأكثر من نصف قرن. مجموعته الأولى تأخرت في الصدور بعد هذا الحدث ست سنوات كاملة (صدرت «الكبار والصغار» عام 1968). يتذكر: «لم تكن ستصدر، كادت تُفرم بعد نشرها». يحكي حكاية أخرى أكثر إثارة: «قدمت المجموعة لـ«دار الكاتب» التابعة للدولة وكان يرأس إدارتها الناقد محمود أمين العالم الذي رحل عنّا قبل أسابيع. وبعدما طُبعت الرواية، ذهبتُ فوجدتها منشورةً وأخبروني أنّها ستُطرح لدى باعة الصحف بعد يومين. أخذتُ أتردّد على باعة الصحف لأكثر من أسبوع. لكنّ شيئاً لم يحدث. ذهبتُ مرةً أخرى إلى الدار فأخبروني أنّ قراراً صدر بـ«فرم» كل الكتب التي تمتدح الصهيونية». صرخ البساطي: «يا نهار أسود... كتابي يدعو إلى الصهيونية؟ حاولت أن ألتقي بالعالم، لكنّني لم أستطع. يومها كنت أعرف عبد الفتاح الجمل، فجعلني أكتب في الملحق الأدبي لصحيفة «المساء» مقالاً بعنوان: «رسالة إلى وزير الثقافة ثروت عكاشة»، وكانت هذه أول وآخر مرة أكتب فيها مقالاً. وفوجئتُ بأمين العالم يستدعيني لمقابلته، ويسألني لماذا لم أخبره بالأمر بدلاً من كتابة المقالات في الصحف؟ أجبته بأنني حاولت ذلك، لكنّ الموظفّين رفضوا أن أقابلك. فأخبرني أنّه قرأ مجموعتي القصصية بنفسه، وليس فيها أي شيء، واعتذر قائلاً: إنّنا في حالة طوارئ بسبب الحرب مع إسرائيل».
«شائعات» هكذا يصف البساطي حكايات أصدقائه التي تقول إنّه لا يقرأ سوى الروايات فقط. يقول: «أنا أقرأ كتب التاريخ ولا أحبّ الفلسفة وكتب النظريات الجافة. قرأت في البنيوية والتفكيكية وتوقفت بعدها عن الكتابة لفترة طويلة. ومن يومها، قررت ألا أقرأ شيئاً منها». لكن ماذا عن الشعر: «أحبّ صلاح عبد الصبور، ومحمود درويش وأمل دنقل». وأمل دنقل له حكاية أخرى مع البساطي: «كنتُ أحب فتاة ولم تكن تعيرني أي اهتمام، وطلبت من أمل أن يكتب لي قصائد فيها. كان يأخذ خمسين قرشاً عن كل قصيدة يكتبها بخلاف ثمن كوب الشاي». يضحك: «تصوّر، استجابت لي الفتاة بعدما قرأت هذه القصائد وخرجت معي إلى السينما». نسأله عن روايته المقبلة: «ما فيش... أنا على باب الله». ماذا سيفعل بفلوس «بوكر» إذا فازت روايته «جوع» (دار الآداب) بها؟ يجيب: «سأبدأ حياتي من جديد!».

جائزة «تحتقر» الشباب؟



محمد خير
ربما لأنّها باشرت أعمالها بعيداً، ما وراء بحر المانش، نجحت لجنة تحكيم جائزة «بوكر» في ألا تتسرّب أي أخبار عن العمل الفائز بالجائزة في دورتها الثانية. تلك السرّية الناجحة، غريبة على عالم عربي يعشق الأسرار... المتسربة!
اليوم إذاً، تُعلن نتيجة المسابقة التي أثارت جدلاً بدأ بالعولمة، ولم ينته عند الكولونيالية مروراً بالدور الخليجي في الثقافة (مبلغ الجائزة تمنحه هيئة إماراتية)... ولا مانع من الحديث عن استشراق، وعقد نقص، وجدوى الترجمة وجدارة لجنة التحكيم، وغير ذلك من حديث بعضه مشروع، وبعضه ينحو إلى المبالغة. المؤكد أنّ الرواج الذي نالته روايات القائمة القصيرة في الدورة الأولى، عكسته أسواق النشر أكثر مما انشغل به النقد. أما روايات الدورة الثانية فحرّكت دوائر مختلفة من النقاش.
لا تتميز إنعام كجه جي فقط بأنّها لم تدخل عالم الرواية إلا قبل 4 سنوات وذلك بعد أكثر من 20 عاماً من العمل الصحافي. هي أيضاً تخطّت الأربعين قبل إصدار روايتها الأول («سواقي القلوب» ــــ 2005). وعلى رغم أنّها الآن في منتصف الأربعينيات، إلا أنّها تعد الأصغر بين أصحاب الروايات الستّ في القائمة القصيرة، وهي الوحيدة من مواليد الستينيات. بينما يتوزع الآخرون بين الخمسينيات والأربعينيات. والواقع أنّ الحال لا تتغير حتى عند العودة إلى القائمة الطويلة قبل تصفيتها. إذ كانت تضمّ غالبية ساحقة من الأسماء التي تنتمي عمرياً للأجيال المذكورة نفسها، أبرزها إبراهيم الكوني، عز الدين شكري وعلي بدر... قاعدة كسرها استثناء هو اللبناني ربيع جابر (1972). ذلك القياس العمري يثير التساؤل عن جدوى الفورة الروائية الشابة في العالم العربي: لمَ لم تنتج الرواية الشابة المنتعشة في السنوات الأخيرة نصوصاً تزاحم الأجيال الأكبر، أم أنّ للجنة التحكيم مزاجاً لم ينسجم بعد مع كتابة الشبان الجدد؟ هل ما زالت الجائزة بحاجة إلى «التكريس» بالأسماء الأكبر، كما تردّد لدى فوز بهاء طاهر بالجائزة الأولى، على حساب توقعات فوز خالد خليفة؟
ميزة الأرقام أنّها قد تقبل التأويل لكن من دون الإنكار. يمكن ملاحظة ذلك لدى النظر إلى أعداد الروايات المتأهلة لـ«بوكر». مقابل 145 رواية تقدمت لمسابقة العام الماضي ــــ صادرة خلال السنوات الثلاث السابقة على الدورة الأولى (استثناء خاص بأول دورة فقط) ــــ تأهلت هذا العام 121 رواية صدرت العام الماضي فقط، ما يعني زيادة نسبية في حجم المشاركة، لكنه يبقى رقماً هزيلاً لمشاركات شملت 16 دولة عربية، بمتوسط أقل من 8 روايات لكل دولة، وهو طبعاً متوسط نظري، إذ إنّ نصيب الأسد لمصر والشام والعراق، وتضمّنت المشاركات أعمالاً كتبها 104 روائيين، مقابل 17 روائية. وهي نسبة مائلة للرجل كثيراً لكنها تظل جيدة في العالم العربي. ما ليس جيداً أنّ روائيتين فقط تأهلتا للقائمة الطويلة: اللبنانية رينيه الحايك والعراقية إنعام كجه جي والأخيرة وحدها تأهلت للقائمة القصيرة. وبخروج رينيه الحايك وربيع جابر من المنافسة، فإنّ عدم تأهل أي روائي من لبنان إلى القائمة القصيرة يطرح تناقضاً ملحاً، إذ إنّ الدور اللبنانية سيطرت على خمس روايات من أصل ست في القائمة القصيرة فيما ذهب الترشيح السادس لـ«دار الشروق» المصرية («عزازيل» يوسف زيدان) التي انتزعت أيضاً الجائزة العام الماضي برواية بهاء طاهر «واحة الغروب». هل نتحدث هنا عن ظاهرة تمركز في مجال النشر؟
في كل الأحوال وبعيداً عن تسريبات لم تحدث، يبدو التكهّن بالعمل الفائز ضرباً من المقامرة. معظم الروايات المرشحة تتساوى في تلبية «استحقاقات» الجائزة: ثمة أبعاد سياسيّة (عراق/ الحفيدة الأميركية) ملحميّة (فلسطين/ زمن الخيول البيضاء)، اجتماعية (طبقية/ جوع)، حضارية (شرق وغرب/ روائح ماري كلير)، ثقافيّة (سلطة النص/ المترجم الخائن)، تاريخيّة (التأسيس الديني/ عزازيل). بهذا المعنى، وفّرت «بوكر» على الأقل نصوصاً تستحق إلقاء الضوء عليها، لكنها كشفت غياب ما يسمّيه البعض «الكتابة الكبيرة» أي الفارقة صاحبة الاختراق النوعي شكلاً ومضموناً، فهل تحمل الأعوام المقبلة مفاجآت أسعد؟

يمنى العيد: سنختـار الرواية الأفضل!



الجائزة لا تقدّم صورة شاملة لراهن الرواية العربية، برأي رئيسة لجنة تحكيم «بوكر» في دورتها الثانية. الناقدة اللبنانية التي تفضّل اعتماد مبدأ الإجماع بدلاً من التصويت، تؤكد هنا تمسّكها بفوز العمل الأفضل بمعزل عن أي اعتبارات أخرى


حسين بن حمزة
عشية إعلان الرواية الفائزة بـ «بوكر العربي» هذا العام، زرنا يمنى العيد التي ترأست لجنة التحكيم هذا العام، للاطلاع على أجواء الجائزة وكواليسها. وكانت هذه الدردشة السريعة فيما الكاتبة والناقدة اللبنانيّة تحزم حقيبتها للسفر إلى أبو ظبي استعداداً للجولة الحاسمة. وافقت على الإجابة عن بعض الأسئلة بشرط ألّا تتطرّق إلى أي تفصيل يتعلق مباشرةً بالمداولات السريّة للجنة، أو يستبق إعلان النتائج النهائية.
بدأنا الدردشة بفكرة أن الجائزة توفِّر قراءة مكثفة لعدد هائل من الروايات، وهو ما يمنح أعضاء لجنة التحكيم فرصة تكوين تصوّرٍ ما عن حال الرواية العربية: إلى أين تتجه؟ وما هي التغيرات الأسلوبية والتقنية التي تتعرض لها؟ وكذلك الحوار الخفي، أو القطيعة، بين نصوص يكتبها شبان ووجوه جديدة وبين نصوص يكتبها كبار ونجوم ومخضرمون؟
تقرُّ صاحبة «في معرفة النص» بأنّ الجائزة وفَّرت لأعضاء اللجنة فرصة ثمينة قراءة 121 عملاً روائياً عربياً... لكنها توضح أنّ هذه الأعمال لا تقدم صورة دقيقة وشاملة لراهن الرواية العربية، إذْ هناك روايات لافتة لم تُرشَّح لبوكر بسبب قوانين الجائزة نفسها التي تستقبل الأعمال الصادرة خلال عام واحد فقط. بهذا المعنى، الجائزة، بحسب تقديرها، تمثِّل موسماً روائياً، والمواسم قد تكون مثمرة وقد لا تكون. ولهذا تسجِّل يمنى العيد تحفُّظها في الحكم على مجمل المشهد الروائي من خلال الروايات المرشحة فقط.
من جهة أخرى، تقول إنّها سعدت بغزارة النتاج الروائي العربي. وترى فيه دليلاً على إقبال كثيف من الكتَّاب العرب على فنّ السرد. وعن تقويمها العام لمستوى الروايات المشاركة، تقول إن النسبة الأكبر منها تراوح قيمتها بين المتوسط والجيّد. أما الجيد جداً فقليل، والممتاز أقل. في المقابل، تشير رئيسة لجنة التحكيم للدورة الثانية من بوكر العربيّة، إلى صعوبة إيجاد معيار كافٍ ووافٍ للحكم، إذْ مع مقارنة ما يُكتب بالعربية بأفضل نماذج الرواية العالمية، سيختلف المعيار وحكم القيمة بالتأكيد: «أنا بطبعي متطلبة وأتابع ما يحدث في فن الرواية، ولهذا أقول إن الرواية العربية لا تزال تحتاج إلى شغل كثير على الصعيد الفني لتقترب بنسبة أكبر من مستوى الرواية العالمية».
هل الروايات الست في القائمة القصيرة هي الأجود والأفضل بين ما قُدِّم إليكم من روايات؟ تجيب: «هناك روايات اتفقنا عليها وروايات اختلفنا عليها. في حالات كهذه، هناك صعوبة في الوصول إلى إجماع أو توافق. كل عضو في اللجنة لديه صوت واحد، وهذا يعني أن النتيجة لن تكون عادلة فنياً ونقدياً ما دام لكل واحد منا رؤيته وقراءته الخاصة، وخصوصاً عند اللجوء إلى التصويت. وهو ما حدث لدى اختيار عدد من عناوين القائمة القصيرة».
نستعيد هنا كلاماً جرى تداوله عقب إعلان نتائج النسخة الأولى، وفوز بهاء طاهر بالجائزة، وهو أنّ الشبان والوجوه الجديدة حضروا ككومبارس. هل يمكن أن يحدث ذلك مجدداً؟ أي أن يفوز أحد المرشحين بسبب اسمه وشهرته أولاً؟ هل تدخل هذه الاعتبارات في حساب اللجنة أو المسؤولين عن الجائزة؟ «لا أبداً. القواعد والمعايير التي تؤطّر عملنا، تؤكد على عدم أخذ بلد الكاتب أو عمره أو حجم نتاجه بعين الاعتبار. مع ذلك، نكون سعداء حين نقرأ رواية جيدة لكاتب شاب، من دون أن يؤثر ذلك في أحكامنا بالطبع. والدليل على ذلك أن رواية «الورم» لإبراهيم الكوني لم تحصل على أصوات تخوِّلها الوصول إلى القائمة القصيرة، بينما وصلت روايات لكتّاب أقل شهرة من الكوني. القصد أنّ الفوز لا ينبغي أن يكون لأسباب خارجة عن الرواية نفسها».
نسألها هنا إذا كانت المواجهة ستكون محتدمة خلال الجولة الأخيرة للمداولات، لاختيار العمل المتوّج. تأتي الإجابة واضحة وديبلوماسيّة في آن واحد: «أنا أحترم آراء أعضاء اللجنة، ومستعدة، في الوقت نفسه، للدفاع عن رأيي كناقدة وقارئة. لا بدّ من الوصول إلى قناعة مشتركة. لن أقبل في النهاية بفوز رواية تعاني مشاكل فنية كثيرة. لا بد لنا من اختيار الرواية الأفضل، سواء كانت لكاتب شاب أو لكاتب له سمعته».
ولكن قد يقال، مثلاً، إنّ الجائزة مُنحت لكاتب مصري العام الماضي، لذا يجب منحها لكاتب غير مصري هذا العام؟ تجيب بحدة: «أنا أرفض هذا المعيار، والجهات التي أنشأت هذه الجائزة ترفضه أيضاً». أخيراً، نسألها عن ملاحظاتها السلبية على «بوكر»؟ «حتى الآن لا توجد ملاحظات سلبية. الجوائز مهمة في النهاية. ينبغي ألا ننسى أنّ الجائزة تتيح ترجمة ست روايات عربية وتقديمها إلى القارئ الأجنبي، وهذا أمر مهم جداً. وأتمنى أن تتوافق اللجنة على العمل الفائز، وألا نلجأ إلى التصويت، لأن التوافق أو الإجماع سيكون عادلاً أكثر».

ممنوع في سوريا



خليل صويلح
القارئ الضجر سيشعر بورطة خلال قراءة رواية فواز حداد «المترجم الخائن» (دار الريس) بسبب ضخامتها وتشعّب أحداثها. لكنّه سيجد مبرّرات أخرى لإكمالها. هذه الرواية هي بين ستة أعمال مرشّحة لـ «بوكر» في دورتها الثانية، مُنعت من التداول في سوريا، وهذا سبب آخر للتلصّص على محتوياتها.
ترصد الرواية، يوميّات مترجم يدعى حامد سليم، تورّط بتحوير نهاية رواية على هواه، ففضح الواقعة صحافي مجهول في مجلة منوعات، ثم أجهز عليه صحافي مشهور هو شريف حسني كنوع من تصفية حساب قديم بينهما. هذه الحادثة ستحطّم حياة المترجم فيختبئ وراء اسم آخر، ويكمل عمله في الترجمة. تخوض الرواية في أجواء الصحافة الثقافية والشللية والفساد والمافيات، ببراهين افتراضية. وإذا بالأحداث تتأزم لتتخذ مجرى بوليسياً صرفاً. ونحن نتوغل في تفاصيل الرواية، سنستغرب العوالم التي يقترحها الروائي في كشف المستور عن صحافة ثقافية بائسة أصلاً، وخصوصاً أنّ أحداث الرواية تجري في بلد مثل سوريا، بالكاد تُخصص ثلاث صفحات ثقافية يومية، لمتابعات عجلى لا تثير غباراً. لعل مشكلة الروائي تكمن في عزلته الشخصية عن هذه المناخات واعتماده ذرائع واهية في بناء عالم يتكشّف عن جو كابوسي وفاسد وأمني ـ قد يكون صحيحاً ـ لكنه يحتاج إلى مفاتيح أخرى. سنجد اتهامات قاسية، اعتمدها الروائي بناءً على مواقف شخصية، أكثر منها ضرورة سردية. ذلك أنّ الاستقبال الحار لرواياته الأولى مثل «موزاييك دمشق39»، و«تياترو 49»، تراجع قليلاً في أعماله اللاحقة، فثارت ثائرته على الصحافة المحلّية، في حوارات غاضبة، خصص جزءاً منها لهجاء الصحافيين. هذه المانشيتات، سنجدها مبثوثةً في متن الرواية على شكل نميمة، ما أضرّ بعمارتها السردية. لكن ما يُحسب لحداد اشتغاله الدقيق على رسم شخصياته وحركة سيرها واضطراب سلوكياتها بمهارة سردية لافتة.

«المترجم الخائن» (دار الريس)


تاريخ ولاهوت وسياسة



محمد خير
مشكلة رواية «عزازيل» ليوسف زيدان، لا تنحصر في فوز المصريّ بهاء طاهر بجائزة «بوكر» العام الماضي ما يصعّب احتمال ذهاب الجائزة إلى العاصمة نفسها مرّتين. ما يزيد «المشكلة» أنّ الرواية صدرت عن «دار الشروق»، ناشر رواية طاهر الفائزة «واحة الغروب». ما سبق أبرز حجج الذين يستبعدون فوز «عزازيل» التي عرفت رواجاً كبيراً. وبعيداً عن إعلان البعض «دهشتهم» من الفارق الشاسع في اللغة والمستوى لصالح «عزازيل»، مقارنة برواية زيدان الأولى «ظل الأفعى» (الهلال ـــ 2006)، فإنّ «عزازيل» تبقى رواية نموذجية الترشيح لأي جائزة، تجتمع فيها الشروط التي تفضّلها لجان التحكيم: مؤلّف استوفى شروط النصّ والتقنيات الروائية في حدّها المعقول، مع ميزة فارقة هي الخوض في الرواية التاريخية النادرة في الأدب العربي. وقبل ذلك وبعده، أثار موضوعها نقاشاً سياسياً ولاهوتيّاً كبيراً، فكيف لا تكون «عزازيل» أقوى الروايات المرشّحة؟
الرواية تعود بقارئها 15 قرناً، إلى هيبا، الراهب والطبيب والشاعر القبطي الذي قتل المسيحيّون أباه الوثني. يرحل الابن عن بلدته في صعيد مصر إلى حلب، مروراً بالاسكندرية وأورشليم. لكنّ الرحلة الحقيقية هي رحلته داخل ذاته، صراع الشك واليقين. «عزازيل» هو الشيطان، لكنّه قد يكون أيضاً رغباته/ أحلامه التي كبتها داخله ذلك العصر المضطرب بالصراعات الدينية، والخلافات الجذرية التي شابت مرحلة تأسيس الكنائس الكبرى، متنقّلاً بين الأديرة والبلدان... بين ثلاث نساء مر بهنّ ومررنَ به، يكافح هيبا في صراعه مع ذاته، باحثاً عن طمأنينة. غير أنّ ظلماً مؤكداً يحيق بالرواية ومؤلفها، عند اختصار العمل في بعده التاريخي/ الديني، أو الوثائقي. إذ إنّ إنجازها «الفنّي» الحقيقي يكمن في قدرة المؤلف على بعث عالم كامل كان قائماً قبل 15 قرناً، بشخوصه ومشكلاته وتفاصيله اليومية.

«عزازيل» (دار الشروق)


جراح عراقيّة



نوال العلي
تعمل زينة بهنام مترجمةً في جيش الاحتلال الأميركي، في المنطقة الخضراء. وكانت قد فرّت مع عائلتها إلى الولايات المتحدة، هرباً من استبداد النظام السابق. إنّها «الحفيدة الأميركية» (دار الجديد) للعراقية إنعام كجه جي. كتبت كجه جي عن تجربة حيّة في المجتمع العراقي الآن، لتثير أسئلة موجودة لم يجرؤ أحد على المجاهرة بها: هل نموذج زينة بطلة الرواية هو مثال للعميلة الخائنة؟ أم أنها ضحية النظام السابق الذي شرّدَ عائلتها؟
من خلال قصة عودة زينة الملتبسة، وهي مسيحية كلدانية، تناقش صاحبة «سواقي القلوب» حيثيات المجتمع تحت الاحتلال، ورفضها القيم الدارجة المتعلقة بالدين والعرف والطائفة. هي لا تتورع عن الوقوع في حب «مهيمن» أخيها بالرضاعة واشتهائه. كما أنّها تُخضع تفكيرها لمقاربة كل ذلك بتفاصيل الحياة في المعسكرات، وتبدي تعاطفاً مع الطرفين: العسكر والناس، الشهداء والقتلى، الأبرياء والقتلة. فتضع بذلك بطلتها في موقف إنساني صعب، لتختبر مبدئيتها. وإذا كانت كجه جي قد كتبت قبلاً «العراق بأقلامهن»، فيمكن أن نرى صورة العراق بقلم هذه الصحافية المقيمة في باريس، مكاناً لصراع القيم وتنازع الانتماء، هل زينة ابنة المهجر الذي آواها وأطعمها وكساها أم ابنة أرض الرافدين فقط؟ وكيف تتصرف في مداهمات تعسفية مع الجيش؟ وماذا تفعل حين يقتل رفاقها في عملية انتحارية؟
تنهي زينة مدة بقائها في العراق وتعود إلى ديترويت، تموت جدتها كمداً، تلك الجدّة التي كانت زوجة العقيد السابق في الجيش العراقي، تمثّل كل ما هو أصيل وأخلاقي. أمّا الحفيدة، فتصير إلى قدر أميركي حددته البزّة التي ارتدتها يوماً وتجاوزت بها عتبات الأهل في العراق. وبدلاً من زيارة قبر الجدة، ستزور الجنود القتلى في مقبرة «أرلنغتن»، وتستكمل حياتها من حيث انتهت، حتى وإن لم يبقَ شيء على حاله.

«الحفيدة الأميركية» (دار الجديد)


هشاشة الحبّ



نوال العلي
إنّها قصة حبّ فقط، إذا سلّمنا بأنّ ما حدث بين الفرنسية ماري كلير والتونسي محفوظ هو ما يحدث بين أيّ اثنين. لكنّ علاقة الشرق بالغرب تتدخل عند قراءة «روائح ماري كلير» (دار الآداب) للروائي التونسي الحبيب السالمي بعد أعمال عدّة، كان أشهرها «عشاق بية» و«أسرار عبدالله». ألا يتفق الجميع على أن أي علاقة من هذا النوع هي رمز أدبي متيسّر للمعضلة التاريخية؟ وخصوصاً أنّ روايات السالمي المقيم في باريس تدور كلّها بين تونس وفرنسا. إلّا أن الإمعان في التأويل يذهب سدى. إذ تعيد التفاصيل القراءة إلى قاعدتها الأولى، وهي أنّ الرواية تتناول علاقة عاطفية بدأت بالجنون والشبق، ثم الحلم بترتيب عناصر الحياة في شقة مؤثثة جيداً، ونباتات متدلية من الشرفة، وروائح تُستعاد مع الوقت فتطغى على كل شيء.
الفروق بين ماري ومحفوظ بيّنة وملتبسة في آن واحد. هو حاصل على الدكتوراه ويعطي دروساً في الجامعة ويعمل في فندق أيضاً، يعيش مع ماري البسيطة التي تعمل في دائرة البريد لأنّها تحب رائحة الرسائل وما تخفيه من أنباء سعيدة بين طياتها. تحتفي بالأعياد وبطقوس تحضير الطعام. أمّا قصة تعاطفها مع الفلسطينيّين فتبدو محشورة في الرواية حشراً. ورغم أنّها الطرف الأقل تعليماً فإنّها تظهر جرأةً أكثر منه في متع الجنس. هو الذي مارسه أول مرة مع الحمير، وهي أكثر درايةً منه في أمور الحياة وممارسة طقوس العيش.
وبينما أحبّت ماري كلير محفوظ حقاً، كانت بالنسبة إليه تعبيراً عن ملكيّة جنسية يتوق إليها. الرواية ليست مساراً للأحداث، بقدر ما هي صيرورة مستمرة للأحاسيس ثم التفكير في تقلب الأحاسيس واستعادة الذكريات وتدخل الأحلام والكوابيس في الواقع اليومي، لتقول على لسان بطلها «ليس هناك ما هو أكثر هشاشة من علاقة حب».

«روائح ماري كلير» (دار الآداب)


الملهاة الفلسطينية



نوال العلي
«زمن الخيول البيضاء» هو العمل الأخير في سلسلة «الملهاة الفلسطينية» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) التي دأب الفلسطيني إبراهيم نصر الله على توثيقها. ست روايات تاريخية بدأت منذ العهد العثماني مروراً بالاستعمار الإنكليزي، ثم فترة العصابات الصهيونية، حتى انتهى «زمن الخيول البيضاء» سنة 1948 باقتلاع أهالي قرية «الهادية» الفلسطينيّة، حيث تدور الأحداث. شرع نصر الله في كتابة الملهاة منذ 1985 لكنه نشرها فعلياً في 1996، حين أصدر «طيور الحذر» العمل الأول من السلسلة، أتبعه بـ«طفل الممحاة» (2000)، و«زيتون الشوارع» (2002)، ثم «تحت شمس الضحى» (2004)، و«أعراس آمنة» في العام نفسه. اتخذت الرواية التاريخيّة بعداً مؤسطراً استمدّته من أجواء الافتتان بالغموض والطبيعة، ثم الظهور المفاجئ لـ «الحمامة» تلك الفرس البيضاء الغامضة التي ستكون بطلة في العمل أيضاً. إذ يظهر التفنّن الأدبي في توطيد العلاقة بينها وبين خالد الحاج محمود، بطل شعبي يرسمه نصر الله نموذجاً لأي مقاتل ملحمي مقاوم. ويرتكز نصر الله على الروايات الشفهية لأولئك الذين شُرِّدوا من بلادهم إثر النكبة.
ومنذ الصفحة الأولى، يحيل الكاتب قارئه على مقولة مأثورة «لقد خلق الله الحصان من الريح والإنسان من التراب» مضيفاً إليها «والبيوت من البشر». وهو بذلك يجمل الأركان الثلاثة التي استند إليها في تقسيم الرواية: «الريح»، ثم «التراب»، وأخيراً «البشر»، وهو الفصل الذي يغطّي أحداث المرحلة التي سبقت النكبة ويشرح أسبابها بتخاذل الجيوش العربية. يقفل نصر الله روايته كأنّه يدير عدسة سينمائية، فيقوّض بنية وطن وبشر بمشهد مفزع؛ الحمام يطير من البرج محترقاً، فيسقط في البساتين لتشتعل فيها حرائق أخرى، والناس يتزاحمون في العربات المغادرة، و«العزيزة» شقيقة خالد، تسند وجهها الباكي إلى الحافة الحديدية لصندوق الشاحنة.

«زمن الخيول البيضاء» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)


خبز وحشيش وقمر



محمد شعير
بإزميل نحات، ينحت محمد البساطي لغته ومشروعه الأدبي القائم على تخليص النص من أي زوائد قد تعيق «إيقاع» العمل وشعريّته. تبدو «جوع» (دار الآداب) بلغتها وتفاصيلها المدهشة مثل سيمفونية من ثلاث حركات يرصد فيها البساطي «جوع» عائلة بأفرادها الأربعة إلى الخبز والجنس والعلم والحب عبر ثلاث وجهات نظر: الزوج زغلول، والزوجة سكينة، والابن الأكبر زاهر. تبدأ الرواية بآية قرآنية عن مصر: «ادخلوها بسلام آمنين» التي تزيّن عادة البيوت الريفية بعد عودة أصحابها من الحج، أو خوفاً من الحسد. لكنّ البيت في الرواية متداعٍ لا يوجد داخله سوى الجوع.
زغلول الأب العاطل من العمل يقضي معظم وقته في المنزل. وإذا أتيح له القيام ببعض الخدمات لكسب بعض المال، تسارع زوجته الى إعداد الخبز لتسدّد ما استعارته من أرغفة من الجيران. رغم فقره المدقع، يسعى زغلول إلى اكتساب العلم والمعرفة. هكذا، ينتظر عودة بعض الطلاب الجامعيين من المدينة، في نهاية كل أسبوع فينزوي في ركن في المقهى حيث يجلسون، ليستمع ـ سرّاً ـ إلى حواراتهم. وهي الحوارات التي تولِّد لديه رغبة فى المعرفة، حتى يذهب يوماً إلى شيخ المسجد ليسأله عن الإيمان والكفر فينال «علقة ساخنة» من أهل القرية.
أما الزوجة، فتدور على نساء القرية لتقترض منهن ثمن رغيف خبز، ثم تعود للجلوس مع بقية أفراد أسرتها على عتبة البيت في انتظار نهار آخر تستكمل فيه سعيها بعدما فقدت كل أمل في العثور على عمل. أمّا الابن الكبير، فيكتشف فرن عباس الذي يعطيه في المساء بعض الأرغفة المحترقة مقابل أن ينظّف الفرن. وتنتهي الرواية بالزوجة على المصطبة «تنتظر طلعة النهار التي اقتربت. الشمس بانت في الأفق»... البساطي هنا لا يغلق أبواب الأمل والمستقبل رغم كل هذه المعاناة.

«جوع» (دار الآداب)