بغداد | سجّل عام2006 بما ضمّه من أحداث العنف الطائفي والتهجير المتبادل، البداية الفعليّة لخسارة عائلات عراقيّة مساكنها وذكرياتها وأمكنة ولادة أبنائها وبيئات نشأتهم. بعضهم غادر مسكنه وحيّه القديم إلى الأبد، وقسم عاد بعد فترة ليعيش إلى يومنا تحت سياط القلق وترقّب القادم. ومن بين هؤلاء جميعاً مَن عاد إلى حتفه الأخير، يوم كان الرصاص الغادر يترجم العودة إلى جثث مرمية في المزابل. كانت هذه الترجمة الفوريّة على أشدّها في أعوام 2006 و2007 و2008.ومن جموع العراقيّين الضحايا، أدباء وفنّانون واعلاميّون، وصلتهم عند عتبات أبواب بيوتهم، أوراق تهديد في مظروف مع «رصاصة تحذير». فيهم من غادر العراق، ومنهم من بقي متنقلاً من مسكن إلى آخر، لكنّ هذا الشرخ الاجتماعيّ بإطاره السياسي- الطائفي، هو من التاريخ الأسود لمرحلة ما بعد نيسان (أبريل) 2003، نعم حين ينتمي شاب إلى تنظيم «القاعدة» ويهجّر عائلة صديقه أيام الدراسة، أو لا يتردّد- من هو في الطرف الآخر لمعادلة الاحتراب- من اختطاف ابن حيّه والتنكيل به، فصفحتنا في هذا المقطع الزمني سوداء، والاعتراف العلنيّ بذلك سير إلى الأمام بوعي.
مكتبات أدباء أحرقت في بغداد وخارجها، وممتلكات فنّانين وإعلاميّين صارت نهباً لمسلحين في حرب عام 2006. نسفت بيوت حينها وغدت بعض العقارات مقار ذبح ومحاكم شرعيّة لتنظيم «القاعدة» أو الميليشيات المسلحة الفاعلة في ميدان العنف الطائفي.
كنّا نتوقّع مع استتباب الأمن نسبيّاً 2009 وعمليات فرض القانون لطرد القاعدة والقضاء على الميليشيات، ألا نشهد ثانية هذه المآسي الشخصيّة لعراقيّين، وألا يبكي شاعر أو روائي أو رسّام خسارة مكتبته أو مشغله ولوازمه الشخصيّة. ذهبنا إلى حلمنا بأقصى درجات الثقة، وكان تدمير بيت الناقد جبرا إبراهيم جبرا (في شارع الأميرات في حيّ المنصور) أوّل ردود الواقع على وهمنا، يوم استهدفت سيّارة ملغمة مقر السفارة المصريّة في بغداد («الأخبار» 8/6/2010)، قيل إنّ لوحات أصليّة لجواد سليم وشاكر حسن آل سعيد كانت من بين ما لاحه الحرق في تلك المأساة.
لكن حالما دخل اسم الخليفة المزعوم إلى نشرات الأخبار وأزيحت «القاعدة» من مشهد الدم، كنّا أمام موجة جديدة من التهجير والنفي. هذه المرّة ستكون الصورة أبشع من ضياع المكتبة وأهلها في حيّ سيقال عنه لاحقاً: «هذا حيّ شيعيّ»، وأكثر من ضياع أزليّ لأرشيف صور ولوحات رسّامين روّاد، ستتحوّل لاحقاً إلى رماد، في حيّ سيسميه المارّة «نّه حيّ سني».
الصورة أقسى وأمرّ. نحن أمام مشهد نسف لا يحدث إلا في السينما الهوليودية. يتردّد الناقد المغترب عبد الله إبراهيم على البيت والمزرعة التي يرعاها هو وأولاده في كركوك. يطمئن بين حين وحين آخر على كتبه ومسوّداته عن ثقافة تسعينيات القرن الماضي، يوم بدأ الانكسار الكبير في العراق عقب احتلال الكويت، وكان إبراهيم- في نهاية هذا العقد- أمام سؤال عميق يتعلّق بمنهج اشتغاله بين نقد الفكر بمعناه العام ونقد الأدب بشكل أخصّ، وهو المشتغل في الاتّجاهين معاً آنذاك. لم يمل من ترداده على بيته بعد 2003، يزرع نبتة هنا، ويعود ليقلّب الورق الأصفر متحسّساً حيويّته الباقية. فجأة، يرنّ الهاتف على الناقد صاحب كتب «التخيّل التاريخي». يأتيه الخبر: «احترق البيت والمكتبة وكلّ ما هناك صار من الماضي». يفجع بالنبأ في آذار (مارس) الماضي، ويدوّن صرخته عبر الفايسبوك: "هذا هو بيتي في كركوك الذي دمّر وأحرق بكامله يوم ١٢-٣-٢٠١٥ وفيه مكتبتي الكبيرة، وأرشيفي، ووثائقي. وقع التدمير، والحرق، ثمّ النهب، بعد أسبوع على انتهاء العمليات العسكريّة بين القوات الكرديّة ومسلحي «داعش». ينبغي أن نسأل لماذا لم يتعرّض البيت للتخريب، والحرق، والنهب خلال الأعمال العسكريّة التي استمرّت ثمانية أشهر بين الطرفين؟ ولماذا حدث ذلك بعد انسحاب «داعش» من المنطقة بأيّام؟».
تلقى الشاعر نامق عبد ذيب خبر هدم بيته في الأنبار الذي كان يحوي مكتبة من 2000 كتاب

بيت ثانٍ، لكن حديث العهد على سجل الضحايا في العراق، هو بيت الشاعر نامق عبد ذيب. بعدما هرب صاحب مجموعات «أريد توضيحي» و«أضاءت حياتي بكلام أزرق» من الأنبار التي احتلها «داعش» نحو بغداد، ومنها إلى اسطنبول، وهو في مغتربه الجديد، جاءه الخبر الصاعق: البيت الذي بناه بالكدّ والعناء، تحوّل إلى حطام، ومكتبته التي جمعها كتاباً تلو الآخر منذ ثمانينيات القرن الماضي (2000 كتاب تقريباً)، وكتبه الثلاثة، وبالأخصّ مجموعته الأخيرة التي لم يتمكن من أن يوقّعها أو يوزّع نسخها، فلم تمهل الأوضاع في الأنبار الشاعر من أن يحمل معه بعضاً منها، تاركاً إيّاها لقدر الفناء الأبدي، ومنها مسوّدة مجموعته «سبب النايات» التي فازت عام 1996 بجائزة «اتّحاد الأدباء» (منحت باسم الشاعر حسب الشيخ جعفر) ولم يطبع الكتاب الفائز حتّى الآن. هي المرّة الثانية التي تدمّر فيها مكتبة ذيب، الأولى في حصار التسعينيات، إذ اضطر لبيع كتبه؛ لمواجهة الوضع الاقتصادي السيئ، وهذه الثانية التي لم يهنأ فيها بإلقاء نظرة أخيرة على الروايات العراقيّة والأجنبيّة التي كان يقتنيها، أو الدواوين وكتب السيرة وهي موشّحة بإمضاءات أصدقائه، لكنّه العراق الذي كثيراً ما يأخذنا إلى متاهات المجهول.
بيت ثالث، هو للفنّانة الرائدة عبلة العزاوي (مواليد 1935)، الذي كان إحدى الغاليريهات المعروفة قبل عقدين من الزمن. مرأى البيت اليوم مزبلة لا أحد يفكّر في استعادة ماضيه، أو حتّى الانتباه إلى حال صاحبته وهي تعاني من مرض عضال. أكوام النفايات تغطي الفضاء الخارجيّ للمكان وحديقته مهملة ومخرّبة، من يستعيد الذكريات عن طبيعة المشهد قديماً، لوحات وأعمال نحتيّة وخزفيّة وضيوف دائمون وروائح قهوة وشاي وحوارات لا تنقطع عن الرسم والخزف العراقيّ... كلّها صور تلتقي في عنوان واحد هو ذوق الرسّامة المعروفة التي ابتكرت هذه الحيويّة الثقافيّة، انطلاقاً من بيتها أو عالمها الخاصّ الذي غدا لاحقاً مهجوراً ومنسياً.
مسيرتها بدأت من المعهد الوطنيّ للفنون التطبيقيّة في فرنسا، واستمرّت بتأكيد حضورها الإبداعيّ عبر عديد من الأعمال الخزفيّة، ومنها جدارية المصرف العقاري في بغداد، مستثمرة رموز التراث الشعبيّ، حيث أعمالها من التعاويذ والقلائد والجداريات تؤكّد أنّها فنّانة ملتزمة بالاشتراطات الكلاسيكيّة.
تعيش العزاوي اليوم عزلتها حتّى عن محيطها الذي صنعته. حديقتها مثلاً بعيدة عن لمساتها وهي محاصرة بالمرض والإهمال، ومن الحال الذي تقبع فيه، نستدلّ إلى حال الإبداع والمبدعين في زمن الحرب والفتك المعولم بالبشر والحجر.