«شاعر ما بعد الفشل» لا يرغب في تغيير العالم

الأنطولوجيا التي صدرت بأجزائها الأربعة عن «احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008»، لتقديم الشعر السوري في مئة عام، لم تمرّ من دون ضجّة. أسماء كثيرة طردت من الفردوس، وصالح دياب وصف رشا عمران بـ«الرقيبة الأخلاقية» على القصيدة

خليل صويلح
هكذا جرت العادة. ما إن يتورّط أحد ما بإصدار أنطولوجيا شعرية، حتى تتعالى أصوات الاحتجاج بسبب غياب اسم، وحضور آخر. كأنّ معارك الثأر استمرار لقبلية الشعر العربي طيلة تاريخه. ذلك أنّ غياب شاعر يعني بشكلٍ ما انتقاصاً من فحولته الشعرية، وتراجعاً لهيبته في القبيلة. نحن إذاً على أبواب معركة ساخنة ينتظرها مَن «تورّط» في الانضمام إلى ورشة «احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008» لإعداد أول انطولوجيا كاملة للشعر السوري. وقد صدرت أخيراً في أربعة مجلدات تغطي تضاريس هذا الشعر خلال قرنٍ كامل. الأنطولوجيا التي تناوب على مختاراتها: سعد الدين كليب (النصف الأول من القرن العشرين)، وشوقي بغدادي (مرحلة الستينيات)، ومنذر مصري (السبعينيات)، ورشا عمران (الثمانينيات ومطلع الألفية الثالثة)، تفتح الباب على مصراعيه لما هو شعر، وما ليس شعراً، وفقاً لذائقة معدّي المختارات. ذلك أن أسماء كثيرة بقيت خارج الفردوس، حتى إنّ منذر مصري أهدى مختاراته «إلى الشعراء الذين سيبحثون عن أسمائهم في هذا الكتاب ولن يجدوها». ما يعني أنّ المعركة ستقوم لا محالة، وخصوصاً أنّ المشروع يسعى إلى تغطية الخريطة الشعرية أفقياً وعمودياً. هكذا، تتجاور تجارب نسيب عريضة ونديم محمد وبدوي الجبل ونزار قباني وأدونيس، مع آخر محاولة لشاعر من الأقاليم القصية.
وإذا كان الجزء الأول من الأنطولوجيا سيمر بسلام، على اعتبار أن معظم شعراء ما يسمّى جيل الرواد قد ودّع الحياة، فإن حقبة الستينيات ستثير أسئلة شائكة تتعلق بالرطانة السياسية والصراخ الثوري الذي وسَم هذه التجارب ومنحها جواز مرور إلى المنابر الكبرى. جيل الهزيمة عبر بقصيدته تحت مظلة إيديولوجية صاخبة، كانت تحمي «ما ليس شعراً» بالمعنى الجمالي، لمصلحة «تفاؤل ثوري رومانسي»، ما حدا بشوقي بغدادي لأن يصف في مقدمته هذا الجيل بـ«هجمة الستينيات». الستينيون إذاً أتوا مع سلطة ثورية حالمة وتماهوا معها ببسالة. لكنّ هذه السلطة، بمجرد أن استكملت أدواتها «انزلقت بسرعة نحو البيروقراطية والاستبداد والطفوليّة اليسارية». هكذا بدأت طلائع الحداثة الشعرية مع تجارب شعراء مثل فايز خضور وممدوح عدوان ومحمد عمران وعلي كنعان، وإذا بقصيدة التفعيلة تهيمن على ما عداها. ولعل مراجعة متأنية لمنجز هؤلاء اليوم ستطرح جانباً كثيراً مما اُعتبر حينذاك «فتحاً شعرياً» في الحداثة. وفي مواكبته لـ«انعطافة السبعينيات»، يرى منذر مصري أن الانعطافة تأخرت في الظهور بسبب هيمنة جيل الستينيين، المسلّح عقائدياً، و«إمساكه بزمام السلطة الأدبية في سوريا»، إضافة إلى إقصاء «السبعينيين» ومحاربة قصيدة النثر التي كانوا يكتبونها كمشروع شعري مضاد للخطاب التحريضي المؤسساتي. مشروع راديكالي ومقترح جمالي مثّلا ظاهرةً لافتة «هبطت بالقصيدة إلى الأرض، لتخلّصها من عموميتها، ومن شغفها بالمطلق». قصيدة شفويّة وأليفة لا تخلو من نبرة ثورية وإن اختلفت مشاربها. المنطقة الشعرية التي اقترحها بندر عبد الحميد وعادل محمود ورياض الصالح الحسين ومنذر مصري ودعد حداد لتحفر في اليومي، وتمجّد الحواس، لا تلتقي قطعاً مع الاشتغالات اللغوية التي عمل عليها سليم بركات أو إبراهيم الجرادي، أو محمود السيد.
ويؤكد منذر مصري أن جيل السبعينيات يدين بتجربته، أولاً، لشاعر استثنائي هو محمد الماغوط الذي شمل تأثيره الأجيال اللاحقة بقصيدته الوحشية الخام، فامتدت سلالته إلى مختلف التيارات الشعرية الجديدة كأب شعري، لا يرغب أحد من أبنائه في قتله، إضافة إلى سعدي يوسف ومحمود درويش بالنسبة إلى شعراء التفعيلة من هذا الجيل.
واللافت لدى معدّي الأنطولوجيا اختلافهم بشأن مصطلح الجيل، فيما نجد الماغوط ينتمي إلى جيل الخمسينيات على صعيد النشر («حزن في ضوء القمر»/ 1959)، يسحبه آخر إلى جيل الستينيات كطفرة حداثية مارقة، فيتكرر اسمه مرتين، وهذا ما سيحدث مع نزيه أبو عفش الذي بدأ شاعر تفعيلة ضمن تيار الستينيات، ثم انعطف إلى قصيدة النثر في السبعينيات، ليعود اليوم إلى الإيقاع، من دون أن يتخلّى عن قصيدة اليأس التي رافقت تجربته الطويلة.
لكن ماذا عن جيل الثمانينيات وما بعده؟ هؤلاء الذين استقلّوا قطاراً بكامل عرباته، وبقي قسم منهم ينتظر في المحطة؟ تحصي رشا عمران 500 شاعر كتبوا خلال الثمانينيات حتى مطلع الألفية الثالثة، ثم تختار 63 شاعراً فقط، ترى أنهم يمثّلون هذا الجيل كحساسية جديدة تنتمي إلى قصيدة النثر قلباً وقالباً.
الدراسة النقدية التي كتبها خضر الآغا مقدمة لهذه المختارات تضيء جانباً من خصوصية «شعرية الثمانينيات وما بعدها» التي جاءت بمثابة «انقلاب شعري» يكاد يضاهي الانقلاب الجذري على يد «شعراء الحداثة» في الخمسينيات، بفارق أنّ هذا الشعر لم يطلع من عباءة القومية أو غيمة الموجة الماركسية التبشيرية، بل أتى مع انهيار الإيديولوجيات. وإذا بقصيدة جديدة تتفتّح على نبرة خفيضة بصوت خائف ومنزوٍ. لعلّ شاعر الألفية الجديدة هو «شاعر ما بعد الفشل» لا يرغب في تغيير العالم، لكنه يعيش العالم برغبة تدميرية، و«كتابة اللامعنى».

جيل «الإنيميشن»... لا يعرف أسلافه


المسافة بين محمد البزم (1884 ـــــ 1955) وشاعر من جيل الألفية الثالثة تنطوي على مفارقة كبرى، إذ قد يتساءل الأخير بدهشة: من هو محمد البزم؟ وأكثر من ذلك، كيف له أن يكتب قصيدة عنوانها «أيها الفرقدان» مثلاً؟ القطيعة محققة وضرورية بالتأكيد بين هذين الجيلين، لكنّ غياب المرجعيات الأولى عن معجم الشعر السوري الجديد، أصاب هذه التجارب بعطب معرفي محقّق. جيل المدوّنات و«الإنيميشن» لا يعرف شيئاً عن أسلافه، عدا ما كانت تفرضه المناهج المدرسية من قصائد لبدوي الجبل وعمر أبو ريشة وخير الدين زركلي.
من هذا الجانب تحديداً، فإن «أنطولوجيا الشعر السوري» تمثّل مرجعاً مهماً لترميم العطب الحاصل في تاريخ الشعر السوري في النصف الأول من الخمسينيات، والاطلاع عن كثب على تجارب شبه منسيّة، رغم أهميتها الشعرية. من يتذكّر اليوم شاعراً مثل عبد الباسط الصوفي أو موريس قبق أو وصفي قرنفلي، هؤلاء الذين وضعوا أولى لبنات التجديد في الشعر السوري؟ في مرحلة لاحقة، سيعبر شعراء كالبرق، انطفأوا في موتٍ مبكر: رحلت سنية صالح بعد رحلة عذاب أليمة مع المرض، وماتت دعد حداد مثل متشرّدة في مخزن كتب (تصحيح خطأ الموت)، وغاب رياض الصالح الحسين في الـ28 من عمره بقصورٍ كلوي (خراب الدورة الدمويّة)، ولحقت بهما سميرة عزّام بصمت (سيرة الآس)، فيما انسحب معظم شعراء جيل الثمانينيات من المشهد، من دون أي فحص ٍنقدي لهذه التجارب التي ضاعت «بين هلاكين»: نجومية جيل السبعينيات الذي نجح أخيراً، في انقلاب دموي، مزّق فيه الرايات الخفّاقة لجيل الستينيات، و«هيصة» التسعينيين من جهة ثانية. هذه الموجة الغائمة والزئبقية والمائعة التي تناسلت شعراء بالجملة، توزعت غنائم حرب، هي ما بقي من تركة محمد الماغوط وأدونيس وسليم بركات. وعلى ضفة أخرى، تقف تجارب «المهاجرين الجدد»، بعد الموجة الأولى، في بدايات القرن. جاءت الموجة الثانية التي حطّت رحالها في بيروت أواخر الخمسينيات، لتكون دعامة أساسية في إطلاق مشروع «مجلة شعر» وبياناتها الصاخبة في كتابة قصيدة حداثة عربية مغايرة، إضافة إلى التجربة المفردة التي خاضها نزار قباني في تأصيل قصيدة غزل عربية جديدة وتحريضية. أما الموجة الأخيرة فتوزعتها المنافي الأوروبية: فايز مقدسي، عائشة أرناؤوط، سليم بركات، مرام المصري، نوري الجراح، سلوى النعيمي، بشير البكر، لينا الطيبي، جاكلين سلام، أكرم القطريب، صالح دياب. وقد وزّع هذا الأخير بياناً يتهجّم فيه بقسوة على معدّة الجزء الأخير من الأنطولوجيا، ويحمّلها مسؤولية تشويه تجربته... إذ حذفت من القصائد ما لا يتناسب مع ذائقتها وحساباتها حسب اتهامات الشاعر السوري المقيم في فرنسا (مثلاً «ألبستك الداخلية» أو إهداء القصيدة «إلى يوسف عبدلكي»، إلخ). ووصف رشا عمران بـ «الرقيبة الأخلاقية»... في انتظار ما سيأتي من اتهامات وردود واتهامات مضادة!