خبرٌ كهذا لن تسمعه لا في نشرة فنية مسائية لبنانية ولا في برنامج ترفيه صباحي محلّي كما لن تقرأه في مجلة منوّعات عربية: رحيل قائد الأوركسترا الألماني الكبير كورت مازور. أما مواقع التواصل الاجتماعي، فروّادها العرب لن يعلّقوا على حدثٍ مماثل، فعينهم على عدّاد الـ «لايكات» الذي يقيس، ممّا يقيس، صدى الفكرة العظيمة التي كتبوها للتوّ. طبعاً، ما هي مساهمة هذا الرجل في الانحطاط الفنّي لكي «تفلقنا» بأخباره كل مصادر المعلومات في لبنان؟ لا شيء. في 19 من الشهر الحالي، رحل في الولايات المتحدة الأميركية، القائد العتيق كورت مازور المولود في ألمانيا عام 1927.في الواقع، إذا كان مازور لا يتمتّع بشهرة فائقة (إلاّ في أوساط الموسيقى الكلاسيكية الغربية، طبعاً) فذلك لأنه ألماني. نعم، لو كان كندياً أو أسترالياً أو عربياً أو حتى فرنسياً أو إيطالياً أو بريطانياً أو إسبانياً لتخطت شهرته الحقيقية تلك الافتراضية. في بلده (المعتبر واحداً مع النمسا في مجال الموسيقى خصوصاً) عشرات القادة الذين لن يبرز فوق العادة من بينهم إلاّ من يتمتّع بدماغ أسطورة، من أمثال فروتفانغلر وكلايبر (الإبن) وكارايان وغيرهما. رغم هذه المنافسة الكبيرة، استطاع كورت مازور أن يحفر اسمه إلى الأبد في اللائحة الذهبية التي رحل معظم رموزها ولم تعد تضم سوى قلّة، هذا إن احتسبنا من أبعدهم العجز الجسدي و/أو الفكري عن الانتاج.
هكذا إذاً يرحل الكبار في زمن الصغار: بصمت. هكذا إذاً ينضم القائد الذي أفنى عمره في خدمة عمالقة التأليف في الحقبة الرومنطيقية إلى قافلة زملائه في المهنة، الذين كان آخرهم كولن دايفس (2013) وكلاوديو آبادو وفرانز بروغن (2014).
الرجل الذي أبعده مرض الباركنسون عن قيادة الأوركسترا في نيسان (أبريل) 2012، إذ خانه الجسد أثناء تقديم السمفونية السادسة لتشايكوفسكي، له تسجيلات بالعشرات عند أكثر من ناشر، أبرزهم Philips ،Teldec وDecca (ناشرو الصف الأول في الموسيقى الكلاسيكية). فهو غزير، وريبرتواره كبير جداً ومنوّع (تشايكوفسكي، شوستاكوفيتش، دوبوسي، دفورجاك، شتراوس، غريغ، لِيسْت،…) رغم ميله إلى الأعمال السمفونية التي أنتجتها الحقبة الرومنطيقية الجرمانية (برامز، بروكنر، بيتهوفن، شومان، شوبرت، مندلسون،…) التي تتطلّب وحدها حياة كاملة وجهوداً استثنائية. له ديسكات دخلت تاريخ الديسكوغرافيا الكلاسيكية، منها ما ينفرد فيها بالأوركسترات التي قادها (وبالأخص الـ «غيفاندهاوز» الألمانية و«أوركسترا نيويورك الفلهارمونية» و«أوركسترا لندن الفلهارمونية») ومنها ما يجمعه بعازفين منفردين، مثل التسجيل الذي يحوي أداءً مرجعياً لكونشترو البيانو رقم 4 لبيتهوفن مع الفرنسية إيلان غريمو، التي شكّل هذا الألبوم انطلاقتها العالمية.
كورت مازور هو من أبرز قادة الرعيل القديم (الذي تلى جيل الأوائل ممن وثّقوا تسجيلاتهم). أسلوبه في مقاربة الأعمال هو احترام إرادة المؤلف بعيداً من التصرّف المبالغ فيه. قاد العديد من الأوركسترات في العالم (في بلده ألمانيا وفي أوروبا وأميركا)، لكنّ على سجّله نقطة سوداء قد نتحمّل مسؤوليتها ـــ نحن العرب الذين أهملنا قضيتنا ـــ أكثر منه، تتمثّل في قيادته «الأوركسترا الفلهارمونية الإسرائيلية». أخيراً، نكتب اليوم عن القائد الألماني كورت مازور كواحدٍ ممن خدموا الموسيقى الجيّدة في العالم. لكن، كم أسطوانة نجد له في لبنان أو في أي من البلدان العربية؟ إنها مسألة عرض وطلب… وكلاهما معدوم في ما خصّ الراحل وأمثاله.
انسيرت: