مشروع مفاجئ ومبتكر بدأه النحات اللبناني بعد عدوان تمّوز 2006، يتضمّن نظرة نقديّة إلى الأدوار الاجتماعية التي تحدّد سلوك الأفراد والجماعات. زيارة إلى معرضه البيروتي الجديد
نوال العلي
الجنود غير متطوّعين في هذه الحرب. وكما جرت العادة لم يُستَشَر أحد الضحايا. لم يبادر أحد للموت ولا للقتل ولا حتى للمهمات العائليّة المقدسة كالأخوّة والأمومة، مثلما لم يتطوع أحد أصلاً للحياة. لكن بما أننا هنا في «مدينة دجودو»، فلنتفرج على عالمٍ يكون المتطوع الوحيد فيه هو الفنان الذي بنى مدينةً فاضلةً على هواه. الأطفال لن يكبروا والطبيعة لن تتبدل والرهبان المرحون يتمتعون بثيابهم الملونة.
يبني النحات اللبناني آلان واصوليان «مدينة دجودو» وهو مشروعه الذي بدأه بعد عدوان تمّوز 2006. يمزج بين منحوتات مختلفة الأحجام وتجهيزات وفيديو آرت، ليصبّ ذلك في عملية إعمار فنيّة لمدينة مقزمّة يجد الزائر خارطتها حالما يدلف «غاليري جانين ربيز».
تجد إلى يمين مدخل المدينة 31 مجسّماً من «جوجو» وهو اسم الجيل الأول السابق لـ 2006: تماثيل أطفال بأحجام صغيرة مصنوعة من السيليكون ومادة الريزان المسلّح. الألوان مبهجة، أخضر وأحمر وورديّ وأصفر. لكنهم أيضاً أطفال ببنادق زائفة ووقفات بطولية وأخرى انهزامية. كل مجسّم بحسب دوره في اللعبة. كأننا بهم يقولون «سأكون القنّاص وأنت الهدف».
لا تنسَ أن تسلّم على تمثال «دجودو» الصغير الواقف في مواجهتك على شرفة منزله، فيده ممدودة لمصافحتك، هذا هو تجهيز Cinema Complex ويعرض فيه أيضاً فيديو عن حياة دجودو في المنزل. وإذا انعطفت خلف هذا البيت ذي القرميد البني، فستواجهك الحديقة المركزية Central Park. دجودو الأول واقف بجثة ضخمة كولد شقيّ بحجم الإنسان العادي، وكان الفنان (1966) قد دلق عليه سطلاً كاملاً وغاضباً من الأحمر «كنتُ أعمل أثناء الحرب، وأسمع القصف، وأرقام الضحايا تعلو فأحضرت علبة اللون الأحمر ودلقتها كدلو ماء على دجودو لذلك يبدو ملطخاً». في الحديقة عشرات المنحوتات، القابلة للفك والتركيب كقطع الليغو. بإمكان اليد أن تكون موضع الرأس، والقدم مكان اليد. في النهاية، إنها أشلاء الأطفال المفزعة كما يجسدها واصوليان أستاذ الفنون في جامعة الـ «ألبا».
حتى تصل إلى المدينة الصناعية، أو إلى مجسم خشبيّ يشبه تكوين العمارة في منطقة ضاحية بيروت الجنوبية، ستعبر من الأوتوستراد، حيث المحجبات يقدن السيارات. يتكوّن نسيج هذه الأعمال من ألياف الزجاج ويميل إلى ألوان قاتمة. تبدو العربات الصغيرة من بعيد صقيلة ومتقنة وفاخرة. أمّا النساء المحجبات، فعبارة عن كتل مصمَّتة. لكنك حالما ترفع أحد هذه الهياكل، ستجد عربة متهالكة ومفرغة من الداخل. قد يرمز العمل إلى ممارسات الإسلام التي تحمل تناقضاتها داخلها. لنقل إن الحجاب ليس إلّا امرأة داخل حجاب، والعربة هي تعبير عن امرأة خارج البيت (الحجب). هكذا، تكون المرأة في الداخل والخارج في آن واحد. ولو أنّ واصوليان توقف عند هذا الحد، لاتُّهم باستخدام الكليشيهات لكنه حمّل مدينته كل تناقضاتها. على مقربة من أولئك النساء، نجد الرهبان. لا تختلف هذه المجسَّمات في الهيئة عن نساء العربات، بل تحمل الشكل نفسه مع أزياء مبتكرة. لا يرتدي أحد الأسود هنا. ورغم ذلك، لا تعبّر الكتل عن أي ملامح، حتى إنّ التماثيل مصممّة على شكل إصبع الإبهام.
أما هناك، في آخر معالم هذه المدينة، فتقف أجيال مختلفة من «دجودو»، يوجّه عبرها واصوليان نقداً للأدوار الاجتماعية التقليدية، الأخ لا يريد حراسة الشقيقة، لا هو بجنديٍ ولا هي بسجينة. والأم ليست راغبة في قضاء وقتها مع الوليد، فالحياة تحدث أيضاً في الخارج. الرأس تعب من التفكير فحلّت محلّه علامة استفهام. كل شخصيات واصوليان تطمح إلى الخارج.
مَن هو«دجودو»؟ إنّه لا أحد، ويمكن أن يكون أيّاً كان. اسم بلا دلالة هوية أو طائفة أو دين. أما المدينة، فهي بيروت. وهي أيضاً كل مدينة منعتها الحرب من الإصغاء للهدوء يتبعه شجار الأولاد البعيد واللعب في الخارج والتنزه في حديقة عامة.


حتى 2 نيسان (أبريل) المقبل ــــ «غاليري جانين ربيز» (الروشة). للاستعلام: 01/868290