بإيدك الحريّة... بصوتك الاستقلال»، حملة إعلاميّة واسعة تجتاح لبنان هذه الأيّام، في خضمّ معركة الانتخابات النيابيّة، بخطاب اختزالي قوامه أبلسة الخصم السياسي وتخوينه، وبشعارات فئويّة تلامس حدود التحريض الأهلي
بيار أبي صعب
فردوس الوطنيّة ضيّق في لبنان لا يتسع للجميع: لا بأس إذاً من أن يكون نصف اللبنانيين، في أقلّ تقدير، خونة. إنّه آخر ابتكارات الديموقراطيّة على الطريقة اللبنانيّة، إذا تأملنا الحملة الانتخابيّة التي تملأ الشاشات والشوارع هذه الأيّام، تحت شعار بليغ (ومعبّر): «بإيدك الحريّة... بصوتك الاستقلال». الحملة لا تحمل توقيع حزب أو زعيم سياسي، بل تكتفي بالأحمر القاني الذي عوّدتنا إياه وكالة «ساتشي إند ساتشي»، منذ اخترعت «استقلال 05» (بتمويل وطني طبعاً) وصولاً إلى «حبّ الحياة» الشهير. الجهة السياسيّة التي موّلت الحملة لا يهمّها سوى مصلحة «الوطن». والمواطن الفطن سيعرف وحده من هو الذي يوجّه إليه هذا النداء العاجل والملحّ، ويحذّره من مغبّة ارتكاب الخطوة الانتخابيّة الغلط.
في أحد الأفلام الترويجيّة، يسألنا الشاب أبو الشعر الطويل المربوط إلى الخلف، واللحية البوهيميّة، واللغة التي تمسخ حوارات زياد الرحباني: «إذا بدّك تغيّر ولا بدّ، غيّر من شي عاطل لشي منيح...». بقي أن نعرف ما هو العاطل وما هو المنيح. ثم يطلق جملته الفظيعة التي يفترض بها أن تختصر النقاش الديموقراطي: «ما في منطقين بهالموضوع!... لبنان أولاً!». وفي شريط آخر، يضيع المرء بين «هنّي» و«نحنا»: «إذا هنّي ربحوا نحنا بنخسر! هيدا أمر طبيعي مش ممكن واحد يجادل فيه». بكلمة: الجدل ممنوع! نفكّر، مستعينين بأحمد فؤاد نجم والشيخ إمام: ولكنْ «هُمّا مين وإحنا مين؟». Zoom مفاجئ على وجه الصبيّة الناصع، شقراء بلون الكوليستون، بسترة الدجينز délavé والـ «كول روليه» الأبيض. إنّها cool على خلفيّة بيضاء، كان يمكن أن تلتقيها في الجمّيزة ليلة البارحة، في الـ «هانكس» أو الـ «غوش كافيار». تنتابنا رغبة في معانقتها. يداها في الجيبين الخلفيّين، تتكلّم بزخم كأنّها تتشاجر مع صاحبها، فتقول له: بتندم، وحياة عيوني بتندم.
تواصل الأخت كوراج تحذيرنا: «بنخسر! بنخسر خسارة كبيرة. ما هنّي إذا خسروا ما بيخلّوا حدا يربح، فكيف بالأحرى إذا ربحوا؟». وتمضي في «التَرْيقة» على هؤلاء الذين يحوّلون الخسارة ربحاً. قبل أن تطمئننا: «إيه بس إذا نحنا بنربح... ما حدا بيخسر». أوف، الآن ارتاح بالنا. وهنا تنتزع أوفيليا يدها من السروال، كي تلحق بلحظة الذروة، فترفع شارة النصر وتختم: «تنيناتنا بنربح!». هذا الشعار نراه أيضاً على اليافطات في كل مكان. لا شك في أنّ المخرج قال لها أن تبقي اليدين خارج الكادر حتى لحظة الحسم، وأن تتكلّم بوجهها فقط. اتصلنا نسأل عنه في «ساتشي» نريد أن نناقشه في أسلوبه وخياراته. لكنّ محدثتنا قالت إنّه يرفض الاعلان عن اسمه، ويرفض أن يتكلّم... خصوصاً لـ «الأخبار».
الإعلاني الشاطر هو الذي يستطيع أن يبيعك أي شيء، بعد أن يقنعك بأنّه أعظم شيء. محتوى فارغ في أمبالاج (غلاف) برّاق وجذّاب. الجماعة في «ساتشي إند ساتشي» يواصلون تطبيق هذه القاعدة بنجاح. اخترعوا «استقلالاً» و«ثورة»، فصدّق العالم. والتقطوا صورة من الجوّ للمواطنين المنتفضين في «ساحة الحريّة»، كأنهم كومبارس في استعراض إعلاني ضخم، وصدّق العالم أيضاً لأنه كان في حاجة إلى أن يصدّق. ثم جاءت حملة «أحب الحياة» لتختزل الصراعات السياسيّة في لبنان والمنطقة، فتقسم البشر إلى فئتين لا ثالثة لهما: ناس يريدون أن يعيشوا وناس يريدون أن يموتوا. وها هم يبادرون إلى توجيه خياراتنا الانتخابيّة، حتّى قبل أن نعرف كلّ أسماء مرشّحينا! «لبنان أوّلاً» يقول شعار الحملة. نتذكّر شعار اليمين الفاشي: «فرنسا للفرنسيين!». نعم لقد نجحت الوكالة، هي الأخرى، في أن تجمع بين المال العربي والخطاب الانعزالي.
هذه هي المعادلة الابتزازيّة التي تقترحها «ساتشي»: إذا كنت «تحبّ لبنان» حقاً، فهذه فرصتك الأخيرة. تصرّف وإلّا فسيضيع الوطن إلى الأبد، في يد حفنة من السفلة الأشرار. ها أنت الآن أمام الامتحان الأعظم: امتحان حبّ لبنان! كي تنجح لا بدّ من أن تقترع للمرشّحين الأخيار من دون أن تعرفهم. أما الآخرون، فلا يحبّون وطنهم كما تعرف: لقد باتت حقيقة علميّة راسخة، بديهيّة، كونيّة. ألا تقرأ الـ Courrier International؟ كيف تسأل من هم الآخرون؟ ولو! إنّهم العملاء والخونة والأصوليّون على اختلافهم، وشذّاذ الآفاق، وموظفو الأجهزة، والمشركون في حب الوطن. (منطقيّاً هؤلاء لديهم من الأصوات ما قد يمنحهم الأكثريّة إذا صدّقنا تهديدات الحملة الاعلانيّة، ونداءها المذعور الذي يستنجد بنا).
أيّها المواطن الصالح الذي يصحو وينام على حبّ الوطن، أنت محاصر بالأشرار من كلّ حدب وصوب فحذار! تمعّن في إعلانات ١٤ آذار الانتخابيّة على التلفزيون قبل النوم، ثم حدّق إلى اللافتات التي تملأ الشوارع، طوال النهار. فكّر جيّداً. هل حفظت الأمثولة؟ هناك حلّ واحد لمشاكل لبنان: تماماً مثل الحلّ الأوحد الذي يبشّر به البابا بونوا السادس عشر الآن في القارة السمراء المنكوبة بكارثة الايدز أو السيدا. لا حلّ لهذه الكارثة، قال لهم قداسته، إلا بـ «الوفاء الزوجي»! وأنت، أخي الموطن، عليك بـ «الوفاء الوطني». كن وفيّاً للبنان، انتخب أيتام كوندوليزا رايس. إذا ربحنا «نحن» (أي الزعيم الفلاني رمز الحريّة والسيادة والاستقلال ـــ خصوصاً بعدما خفّت لكنته ـــ بأمواله وحلفائه الوطنيين أجمعين، والمصالح الاقتصاديّة السامية، والقوى الإقليميّة الخيّرة التي تقف وراءه)، فسيربح الجميع حسب ساتشي. لكن ماذا يضمن لنا أن «ربحَنا» لن يكون خسارة للجميع أيضاً؟