أعلى شأن آلة الكمان في الموسيقى الشرقيةبشير صفير
في العالم الحديث المليء بالصخب والمحكوم بالسرعة، هناك من طلب الهدوء فاعتمد أسلوب حياة خاص يوفّر له الصفاء الذهني والسلام الدائم. في الموسيقى، يشهد العالم (العربي والغربي أيضاً) تجارب فنية تأخذ منحى صوفيّاً، ولو اختلفت أساليب التعبير. في لبنان، إذا استثنينا الحالات التي تُدرَج في أطرٍ دينية بحت، تأتي تجربة الفنان نداء أبو مراد ـــــ في جزءٍ منها ـــــ على رأس المحاولات الموسيقية التي تتّخذ من الصوفيّة محوراً أساسياً لتبلورها. أما الجزء الثاني من سعيه الفني، فيوضَع حصراً في خانة الموسيقى الفصحى العربية التقليدية. من جهة ثانية، أسهم أبو مراد في إعلاء شأن آلة الكمان في الموسيقى الشرقية بجعلها لسان حال فنّه. وهو بذلك يضيف رصيد حضور هذه الآلة، إلى جانب عددٍ من الأسماء مثل سامي الشوّا (أمير الكمان)، وصبحي جارور (قالب جيّد ومضمون عاديّ)، عبود عبد العال (صديق الـ«رولينغ ستونز»!)، عبدو داغر (معلم المدرسة المصرية المعاصرة)، رياض عبد الجواد (تلميذ الأخير ورمز الأصالة في مصر اليوم)، رفيق حبيقة (عرّاب الأغنية الشعبيّة والبدوية في لبنان خلال الحرب)، جهاد عقل (تقنيات عالية وإحساسٌ فائض... في خدمة التجارية)، وغيرهم. من بين هذه الأسماء، أبو مراد هو الأقرب في نهجه إلى الأمير، لكنّ هناك فارقاً جوهرياً بين الاثنين: الجمل القصيرة في ارتجال التقاسيم (وخصوصاً في الموَقَّعة منها) عند نداء، مقابل الجمل الطويلة التي يصعب توقّع مسارها عند الشوّا، كأنّ العازف صرف عليها ساعات لكتابتهابدأ أبو مراد (1959) دراسة الطب قبل التفرّغ للموسيقى، بحثاً، أداءً وتأليفاً. تعلّم الأصول الغربية (الأوروبية الكلاسيكية) في العزف على آلة الكمان في المعهد الموسيقي الوطني اللبناني ثم في معاهد أوروبية. علاقته الأولى مع الموسيقى الكلاسيكية الغربية استمرت منذ السبعينيات حتى أواسط الثمانينيات، عندما التقى في باريس عازف العود الشهير فوزي السايب وبدأ معه دروساً من نوع آخر. يومها، بدأ مشواره مع التراث العربي (وخصوصاً عصر النهضة الأولى)، وغاص في أبحاثه التي نتج منها تنفيذ لمدونات موسيقية نادرة ومؤلفات خاصة وتقاسيم ضمن القوالب التقليدية الموروثة.
لدى عودته إلى لبنان، أسّس فرقة الموسيقى الفصحى العربية المشرقية عام 1993، وعمل معها أو منفرداً على التسجيل أو إقامة الأمسيات الموسيقية. وقد أصدر العديد من الأسطوانات، تناول فيها التراث العربي أو الصوفية، بينها «مقامات على الكمان»، «موسيقى النهضة العربية»، «عاشقة الله»، «سماع من ذكر ليلى»، «سماع من ذكر الحبيب»، «سماع من بشارة مريم»، «موسيقى من العصر العباسي». كما أصدر ألبوماً خاصاً بإرث ميخائيل مشاقة (1800ـــــ 1888) من خلال أداء مدوناته... إضافة إلى إصداراته الكثيرة، نظّم أبو مراد (وشارك في) العديد من المؤتمرات والمهرجانات الخاصة بالموسيقى العربية والدينية، ويتولّى اليوم إدارة المعهد العالي للموسيقى في «الجامعة الأنطونية».
في عيد البشارة الذي يصادف اليوم، يقدّم أبو مراد عند الثامنة مساءً، في الجامعة الأنطونية (بعبدا)، أمسيةً من إعداده بعنوان «البشارة: سماع صوفيّ مسيحيّ إسلاميّ مشرقيّ»، يتخلّلها إطلاق أسطوانته الجديدة التي تحمل العنوان نفسه (إنكوغنيتو). يتألف هذا السماع من آيات من إنجيلَيْ متّى ولوقا ومن سورتََيْ آل عمران ومريم (القرآن الكريم) ومن سفر أشعيا ونشيد الأناشيد (العهد القديم)، بالإضافة إلى نصوص للقدّيس مكسيموس المعتَرِف والحلاّج والشيخ محيي الدين بن عربي وعمر بن الفارض والمعلّم الألماني إيكهارد. ويشارك في الأمسية الشيخ صلاح يمّوت، محمّد عيّاش، الأب جوزف بو رعد، ميخائيل الحوراني (ترنيم)، المطرانان جورج خضر وسمعان عطا الله، الشيخ شفيق جرادي، الشيخ إبراهيم رمضان (قراءات)، مع مرافقة موسيقية لنداء أبو مراد، مصطفى سعيد (عود) وغسان سحّاب (قانون).
موسيقيّاً، يعتمد هذا السماع في غالبيّته على الارتجال، ارتكازاً على الترنيم الديني والإنشاد الصوفي والتجويد القرآني، بحسب التقليدين الإسلامي والكنسي، وعلى التقاسيم. بالإضافة إلى أداء فقرات إنشاديّة من التراث الكنسي السرياني الماروني والتراث الكنسي الأرثوذكسي والتراث الغريغوري اللاتيني، ومن ألحان نداء أبو مراد.
ملاحظة أخيرة تستند إلى تصريحات أبو مراد نفسه: صحيح أنّه من الموسيقيين القلّة الذين يعرفون جيداً ما يريدون، لكنّه لا يعرف ما يريده الآخرون من تجاربهم، بل يعرف ما لا يريدون. ما الجرم في المنحى الأمميّ لإبداع الموسيقى، بدلاً أو بموازاة «التعصب» القومي، إذا لم يكن الأول، أي الأممي، عرضاً غربياً على حساب الثاني؟ هل يؤثر على الإبداع أو التلقّي إذا كان المؤلّف (أو المستمع) ملحداً مثلاً أو وثنياً، ويفضِّل الجنس على العشق الإلهي؟ وما المشكلة إذا عَبَّرَ موسيقيون عن إبداعهم بلغة شعبية بدلاً من العودة إلى الموسيقى العالمة والتراث الشرقي والصوفيّة؟


8:00 مساء اليوم ــ الجامعة الأنطونية (بعبدا/ لبنان) ــ للاستعلام 05/924073