تجربته الجديدة تأتي بعد «أرخبيل» و«مآآآرش» لتستمكل ثلاثيّة «الحرب والموت». نواة مسرحيّة ناقصة، حالياً على مسرح «مونو»
بيار أبي صعب
«بنفسج» عمل عصام بوخالد الجديد، يقوم كالعادة على تلك المعادلة المركّبة التي تجمع بين جوانب عدّة: تقنيّة وجسمانيّة ودراميّة وتمثيليّة ولغويّة، للتعبير عن رؤيا عبثيّة، عن نظرة ساخرة ومتشائمة وهاذية إلى العالم. إنّه أحد أبناء هذا العبء الفظيع الذي اسمه الحرب، إذ باتت ـــــ منذ تجربته الأولى «تريو» (1997) ـــــ مجال حفرياته الأركيولوجيّة، ومادة وحيه، وموضوعه بامتياز. يستعيد هذا المسرحي الشاب دائماً الجرح نفسه: باستثناء «صفحة 7» (2007، مع فادي أبي سمرا) التي جنحت إلى العبثيّة والتّيه الميتافيزيقي، فإن كل أعماله تدور في كابوس الحرب المباشرة، تتمثّل الموت أو تجسّده على الخشبة. شخصيّات «أرخبيل» (1999) تعيش في العالم السفلي، حاملة ذكرياتها المريرة في الحرب. وفي سياق جمالي مختلف، جاءت «مآآآرش» (2004) كرنفالاً كوريغرافياً هاذياً يستعيد لعبة الحرب، ويقتل جمهوره على شاشة الفيديو... أما «بنفسج» فتجمع بين العملين السابقين، وربّما أمكن اعتبارها حلقة أخيرة، في ثلاثيّة الحرب والموت.
ها نحن مجدداً في العالم السفلي، كما أورفيوس الباحث عن يوريديس. «هي» (برناديت حديب) و«هو» (سعيد سرحان) في مقبرة جماعيّة، «يعيشان» راهناً داكناً وخانقاً ومشلّعاً، في مجتمع أصمّ ومظلم «بلا دم ولا روح». المرأة أفلتت منها أعضاؤها، أضاعت روحها أيضاً وراحت تبحث عنها. استعارت أعضاء من أجساد أخرى، لإعادة تركيب ذاتها. الرجل حوّله القمع المنهجي والتدمير المعنوي إلى حيوان. إنه مقيّد يتحرك كالعبيد أو الوحوش البدائيّة، وينطق بلغة طلسميّة. يحاول الاثنان التواصل، بناء علاقات إنسانيّة «طبيعيّة». «هي» تلملم أشلاءها كلّ مرّة، تمشي ومؤخّرتها لجهة الأمام أو تزحف، تضع رأسها في حضنها فلا ترتاح، تبدو مسكونة بهاجس البحث عن طفلها الذي انفصلت عنه لحظة الانفجار. و«هو» يهجس بأم بعيدة... ينظران إلى الأعلى، ويحلمان بموت آخر أكثر رفقاً، في ظل شجرة ينبت تحتها البنفسج. في مشهد المونولوجات المتوازية تتقاطع قصتاهما عند موت مشترك، بعد أن يستعيد نطقه «المفهوم» في النهاية.
لعلّ عصام وصل في هذا الاحتفال الهاذي ومفرداته إلى نقطة مهمة في تجربته. كوميديا مأتميّة، عبثيّة، تبصق في وجوهنا كلّ صور الفظائع المختزنة في لاوعيٍ جماعيّ، عابر للحروب والمجازر. لبنان في تموز 2006، غزّة، العراق... مسرحة الموت العنيف، الفصام والضياع والتمزّق والانحلال. استعادة طقوس القتل، وأيضاً طقوس تصويره. الكاميرات تبحث عن دم، والدم منديل أحمر تنتشله برناديت من جسد (جثة) شريكها في هذه اللعبة الفظيعة. منذ بداية العرض يسقط الرضيع، ثم تتساقط تباعاً أجزاء أمّه من خلف شقّ أسود كأنه برزخ بين الحياة والعدم... يلعب المخرج على قواعد المنظور، إذ يعلق ممثليه أفقيّاً، متعامدين مع جدار العمق أفقيّاً، فإذا بنا ننظر إليهما كأننا في الأعلى على كتف الهاوية. هناك رقصة الأشلاء. الشريط الصوتي (زبينييف برايزنر، أليس كولتراين، لويس سكالفيس، غوران بريغوفيك) الذي يرافق المشاهد الموجعة، فيخلق مسافة تغريبيّة، أو يضيف بعداً تأملياً. تقطيع الفضاء بإضاءة عموديّة كأنها بصيص ضوء في العالم العلوي، وبإضاءات جانبيّة تجعل الجسدين يسبحان في العدم. هناك مشهد النهاية: الأم التي استدلّت إلى طفلها، فإذا به كيس من الرمل مبقور تتسرّب محتوياته إلى الأرض... ترمي الكيس، تضع يدها بيد الرجل وقد استعاد إنسانيته، يمشيان ببطء (سلو موشن) حتى الباب الخلفي.
اللغة هي دائماً ذاتها لدى عصام بوخالد، شاعريّة وخفيفة، راهنة ويوميّة وساخرة. بموازاة الاختراعات المشهديّة، تأتي لتلعب على المعنى الحرْفي للكلمات، وتطبّقها على حالات مأسويّة مفجعة ومعقّدة. الملابس والاكسسوارات والإضاءة والعناصر البصريّة والاختراعات الصغيرة، كلّها أساسيّة في عالمه... والسينوغرافيا تحتل دائماً مكانة محوريّة في رؤيته. لذا يحمل مسرحه بصمات شركائه الدائمين: حسين بيضون (سينوغرافيا)، سرمد لويس (إضاءة/ صوت)، سوسن بوخالد (أكسسوارات وملابس). قوّة «بنفسج» في الأداء الميكانيكي، والمهارة الجسديّة، والتشكيل اللفظي والحركي، لكنّ نقطة ضعفها الأساسيّة، دراميّة على الأرجح... لذلك خيّل إلينا أننا شاهدنا عرضاً ناقصاً. إلا إذا اعتبرنا أن المسرحيّة كما تقدّم حالياً هي نواة أوليّة لعمل آخذ في التشكّل والتطوّر والنمو.


حتى 12 نيسان (أبريل) المقبل ــ «مسرح مونو» ــ 01/202422