الندوة التي استضافتها نقابة الصحافيين المصريين أمس، بمناسبة «الذكرى المئوية لتظاهرات حرية الصحافة في مصر 1909» أظهرت أنّ لا شيء تغيّر بين الأمس واليوم. حريّة الإعلام المكتوب في القاهرة ما زالت هي هي بين بطش السلطة وتحدّيات الراهن
محمد خير
كمعظم قضايا التقدّم العربي، تبدو اليوم حرية الصحافة في بلاد الضاد، كأنّها أَسقطت من حسابها مئة عام أو أكثر. الخبر السيئ أنّ عشرات السنين من النضال الصحافي لم تقنع السلطات العربية بأهمية حرية التعبير. والخبر الجيد أنّ صحافيينا لم ييأسوا. في هذا الإطار من الأمل، جاءت الندوة الموسعة التي استضافتها نقابة الصحافيين المصريين أمس، بمناسبة «الذكرى المئوية لتظاهرات حرية الصحافة في مصر 1909» ، وانشغل المشاركون فيها، صحافيين وكتاباً ومدونين، بمناقشة حرية الصحافة المصرية.
اللافت أنّ دور المصادفة أقل بكثير مما يبدو: تظاهرات حرية الصحافة التي اندلعت في مصر قبل مئة عام، قادها حينها الصحافي اللامع أحمد حلمي، ضد فرض قيود على الصحافة على يد المعتمد البريطاني والخديوي عباس حلمي الثاني. ليس غريباً هنا أن نعرف، أنّ حفيد أحمد حلمي، هو ذاته الشاعر والفنان صلاح جاهين الذي فتحت له الصحافة مجال الشعر والكاريكاتور معاً، عبر المدرسة الصحافية الشهيرة بمجلة «صباح الخير»، بدءاً من منتصف الخمسينيات. ثم، مجدداً، لا يبدو غريباً، أنّ نجل صلاح جاهين، أي الشاعر بهاء جاهين، هو أيضاً صحافي في «الأهرام»، وأول المتحدثين في الجلسة الأولى من الندوة التي حملت عنوان «حرية الصحافة في مصر المحتلة». أما الجلسة الثانية فعنوانها «حرية الصحافة والتعبير بعد مئة عام من تظاهرات 1909».
المقارنة بين المناسبة ووضع الصحافة الحالي، تبدو حقيقيةً أكثر من أي وقت. إذ تقوم اليوم فئات عدة وشرائح واسعة من المصريين بحركة احتجاجات مطلبيّة واسعة النطاق، ولا يمر يوم من دون إضراب، وفي وقت تشهد الصحافة المصرية تحولاً جذرياً سبّبه تأسيس عدد كبير من مؤسسات الصحافة المستقلة، في مواجهة أزمات متعددة إدارية وتوزيعية تواجهها الصحافة الحكومية على رأسها «الأهرام». إضافة إلى تهديدات تشترك فيها الصحافة الورقية المصرية مع نظيراتها في العالم بمواجهة صحافة الإنترنت والميديا المرئية. تتولد من هذه المقارنة بين الماضي والحاضر مفارقات لها دلالاتها، أبرزها أنّ تظاهرات 1909 ضد تعديل مواد قانون المطبوعات المصري، وتقييد حرية الصحافة على يد خديوية إنكليزية، كانت تظاهرات شعبية لم تقتصر على الصحافيين. بل تشير الأوراق المقدمة في الندوة إلى أنّ عدد المشاركين في التظاهرات التي استمرت أياماً، وصل إلى 25 ألف مصري في بلد لم يكن يزيد تعداده آنذاك عن 5 ملايين نسمة. ما يؤكد أنّ الحركة كانت شعبية وإن قادها صحافيون. على رأس هؤلاء كان طبعاً أحمد حلمي الذي كان يرأس جريدة «القطر المصري»، وحوكم بتهمتي «الطعن على مسند الخديوية وفي حقوق الحضرة الفخيمة»، و«العيب في حق ذات ولي الأمر». تم يومها إعدام العدد 37 من جريدته، وحكم عليه بالسجن 10 أشهر.
أقامت الندوة رابطاً بين شخصيات زماننا وذلك الزمان البعيد، واستضافت جلستها الأولى، إلى جانب جاهين، الصحافي إبراهيم عيسى رئيس تحرير جريدة «الدستور» المستقلة الذي واجه دعاوى قضائية لا تختلف عن الدعاوى المرفوعة قبل مئة عام. كما شاركت نورا يونس وهي مدونة مصرية ومراسلة صحيفة «واشنطن بوست»، إضافة إلى جمال عيد المدير التنفيذي لـ«الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان»، وممثل للمؤسسات الحقوقية الثلاث المنظمة للندوة («مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان» و«الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان»، و«المنظمة المصرية لحقوق الإنسان»). ترأس الجلسة الصحافي جمال فهمي الذي، إضافة إلى كونه عضو مجلس نقابة الصحافيين، سُجن عام 1998 ستة أشهر في قضية نشر شهيرة، اتّهم فيها بـ«سبّ» الراحل ثروت أباظة، رئيس اتحاد الكتاب آنذاك.
أما الجلسة الثانية فترأستها الصحافية اليسارية المخضرمة فريدة النقاش. وهذه الأخيرة اعتقلت أيضاً بسبب نشاطها السياسي، وترأس حالياً تحرير جريدة «الأهالي» اليسارية. وتحدث في الجلسة حسين عبد الغني مدير مكتب قناة «الجزيرة» في القاهرة، والروائي علاء الأسواني، والإعلامي وائل الإبراشي، ومحمد هاشم مدير دار «ميريت».
واستحضر المعرض الذي أقامته مجلة «أيام مصرية»، بموازاة الندوة، شخصيات الزمن القديم، أي أحمد حلمي وأحمد لطفي السيد وإبراهيم الهلباوي، وغيرهم من رجال بدايات القرن العشرين، الذين كان نضالهم للكلمة مرتبطاً بنضالهم من أجل الاستقلال. كما كان وجودهم بالصور والوثائق وبالكتاب التسجيلي الذي طبعه المنظمون للمناسبة، تأكيداً على وحدة المبادئ التي لا يزال الصحافي المصري يسعى إلى ترسيخها من دون كلل: حرية الوطن من حرية الكلمة، وحرية الكلمة من حرية الصحافة.


أحمد حلمي

لا تختلف التهم التي توجّه إلى عدد كبير من الصحافيين المصريين اليوم، منهم طبعاً إبراهيم عيسى (الصورة)، عن تلك التي كانت توجّه إلى الصحافيين خلال القرن الماضي. ويذكر المؤرخ الراحل يونان لبيب رزق في كتابه «العيب في ذات أفندينا» تفاصيل عن الصحافي أحمد حلمي والملاحقات الأمنية التي تعرّض لها وعملية اعتقاله بتهم مختلفة. وسجن حلمي ليخرج بعدها بنبرة أقوى يكتب عن‏ «صلاح الرعية بصلاح ملوكها‏» ويصدر مانشيت عريضاً هو «فلتسقط حكومة الفرد» ثم أغلقت جريدته في ‏8‏ كانون الثاني (يناير‏) 1910