أطلق «أبو غابي» (محمد نور أحمد) الفنان الفلسطيني الآتي من مخيّم اليرموك في سوريا منذ فترة ألبومه الأوّل «حجاز حرب» في بيروت، وتحديداً من «مسرح المدينة». الألبوم الذي سُجّل في استديو فرقة «كتيبة خمسة» (تسجيل حسين قمح) تضمن ثماني أغنيات تعاون فيها مع شعراءٍ قديرين مثل الراحل راشد الحسين، وأوسكار حبيب وابراهيم نصر الله، وموسيقيين محليين معروفين كـ«أسلوب»، كريستوفر ابراهيم، ومهند نصر.
لا شيء يمكنه أن يخفي وجع الفلسطيني الآتي من مخيّم اليرموك، لا الفن لا الغناء لا الرقص ولا حتى السينما. لكن هذه الفنون هي نوع من محاباة الذات، ومراضاتها، والتخفيف عنها. هذا الأمر ينطبق على ألبوم الفنان الذي جاء ثمرة تعاون إنتاجي بين «صلات» (مؤسسة عبد المحسن القطّان)، ومؤسسة «فريدريش إيبرت» الألمانية.
نادى سوريا الأم
التي «تلم الجميع، وتجمع الكل»

وكان أبو غابي قد أخرج فيلماً قصيراً بعنوان «أنا أزرق» (2014) الذي يتحدث عن حصار مخيم اليرموك ومعاناة سكانه، وأراده أن يكون تذكرة دخوله إلى المجتمع الفني اللبناني والعربي.
يمكن اعتبار هذا الفنان (والده هو العواد المعروف صلاح أحمد) واحداً من أجمل الأصوات الوافدة إلى لبنان. المعزوفة الأولى من الألبوم التي أعطته عنوانه، تبدو أقرب إلى الصراع منها إلى لعبة المعزوفة العادية. نشهد عملاً حرفياً عالياً من موسيقيين يمتلكون حرفة الموسيقى بدايةً (كريستوفر ابراهيم تأليفاً، ومهند نصر توزيعاً) كما حرفة الإبداع. يضاف إلى ذلك أن التجربة المعاشة بين الموت والحياة تجعل جميعهم يعرفون معنى الحرب/ الموت وتمازجهما. لذلك جاءت معزوفة «حجاز حرب» أبسط وأقوى تعبيراً عن الألبوم بحدِّ ذاته. إنها لعبة التناقض بين مقامي «الحجاز» و»النهاوند»؛ بين مقامي الغناء والحرب. هنا كان المزج قائماً على أكمل وجه. «الحرب أخرجتنا من كل شيء، إنها طائرة الميغ التي جعلت الناس يعرفون أنه آن أوان خروجهم من المخيّم» يقول أبو غابي.
تأتي أغنية «طلعنا من بيوتنا» (كلماته وألحانه) لتحكي كيف خرج العائدون الفلسطينيون إلى تيههم الثاني وسبيهم الجديد: «نخرج من منازلنا كما لو أنّها حكاية من عام 1948، نعيد التفاصيل نفس ولكن هذه المرّة من العاصمة السورية». يجيد أبو غابي هنا ثنائية الحكائي/الغنائي، وهذا ما يبرزه كفنانٍ «شعبي». تأتي الشعبية من قرب الأغنية من المحيط ومدى أثره عليه (أحمد قعبور مثالاً). بعد ذلك يقترب أبو غابي من الشخصي أكثر فأكثر مع أغنية «لون عينيك» (كلمات الراحل راشد الحسين وتوزيع «أسلوب»).
نشهد نمطاً مختلفاً عن كل أعمال الألبوم. الموزع الشاب «أسلوب» المقيم حالياً في فرنسا، أراد لهذه الأغنية أن تكون مختلفةً، فهو تعاون مع أبو غابي في ثلاث أغنيات سابقاً (لولاك، قد رحلوا، الوثيقة).
لذلك، هو يعرف إمكانات صوته جيداً، فأعطاه موسيقى تتناغم معه بشكلٍ مرتفع وبحنكةٍ متينة. أما أغنية «نحن أحياء» (كلمات ابراهيم نصرالله وألحان أبو غابي) فتكمل فكرة الألبوم بحد ذاتها. إنّها حزن الباقين أحياء: لا تروي اختصاراً لآلامهم فحسب، بل هي أيضاً نوعٌ من المواساة لأولئك الذين بقوا أحياء ولم يرحلوا. على الجانب الأدائي، يتمكن أبو غابي من تنفيذ «العِرَب» بحرفةٍ عاليةً كما يتحكّم بصوته بسهولةٍ بالغة.
أما أغنية «حبيني ولا تتخوتي» (كلماته وألحانه)، فيسر أبو غابي لـ «الأخبار» بأن القصّة «شخصيةٌ» حصلت معه فعلاً، فكان لا بد من أن يكون للحب ولو قليل في هذا الألبوم، خصوصاً ثلاثية المرأة/ الأرض/ المقاومة الفلسطينية الشهيرة التي أرساها الشاعر محمود درويش. تقترب الأغنية بموسيقاها إلى بساطةٍ ممتنعة مع إتقانٍ تركيبي لجهة مزج الآلات مع بعضها، ويكمل المشهد صوت أبو غابي الشرقي للغاية، مع كلماتٍ ذات وقعٍ بسيط «مالي وطن أرجع عليك، حضنك هو بيتي وفرشتي؛ حبيني ولا تتخوتي». ولأن «سوريا» هي أصل الحكاية لدى الفلسطيني السوري، لم يكن ممكناً ألا تكون أنشودة/ أغنية «سوريا» (كلمات أوسكار حبيب ولحنها من تراث جبل العرب) معبّراً واعياً عن الحكاية.
كان أبو غابي ذكياً، إذ أنّه لم يقترب لا من المعارضة ولا الموالاة، فنادى سوريا الأم التي «تلم الجميع، وتجمع الكل»: «بعرف رح تسمعيني بصوتي المبحوح، وبدي اشكيكي مش قادر بوح، من يوم اللي فارقتك، فارقت الروح».