«حوار بصري» مع الذاكرة والحلم والأسطورةخليل صويلح
ليس ما يرسمه أسعد عرابي في معرضه «حوار بصري» الذي استضافته «غاليري أيام» الدمشقية أخيراً، مجرد طبيعة صامتة. كما أنّه ليس استراحة محارب راغب في استعادة «مفارقة صمت العناصر»، ومتعة الظل والنور. هناك حيوات أخرى تنبض بين جنبات هذه الموجودات. حتى أنّنا نكاد ننصت إلى أنفاس حركة آدمية تختبئ في ركن من محيط اللوحة: مَن بعثر هذه الأواني؟ ومن أزاح غطاء المائدة؟ ومن أحال تلك الرمانة إلى الأزرق؟ نجد هذا الإيقاع الحركي في كل لوحاته تقريباً: في اتجاهات الخطوط ونبضها الموسيقي، ومغامرة اللون في حدودها القصوى. ننسى لبرهة أنّنا نشاهد «طبيعة صامتة»، أو «طبيعة ميتة» بمعناها السكوني والمستقر، في جملة شروط تتحكّم تاريخياً بمغزى هذه اللوحة وأبعادها. هنا ذاكرة متأججة يغذيها الحدس والحواس بدفقة إيروتيكية تكاد تعلن عن نفسها في مقاصد الخطوط والأشكال والشهوات المضمرةيعمل أسعد عرابي إذاً من منطقة مغايرة، تعيد الألق إلى هذا الموضوع المألوف، وتنسف مرجعياته التقليدية، لتضعه في مقام لوني آخر. لا يكتفي التشكيلي بسطح واحد، يفرش فوقه عناصر لوحته... بل يقيم «حواراً بصرياً» متناوباً في مرآتين متقابلتين. تقيم هذه العناصر علاقات غامضة وملغّزة في ما بينها، وتنشئ حياة سريّة تنمو في العتمة، وتتفتح في الضوء. ذلك أنّ الأشكال لا تتوقف عند حدود البهجة اللونية، بل تقترح صياغات تعبيرية، وأحياناً تجريدية خالصة، كما أنّها لا تنفصل عن مقترح هذا التشكيلي المتفرد في إنتاج مدلولات بصرية وحسيّة نابضة. كأنّ ما نشهده هنا، ليس سوى استمرار لما بدأ الفنّان السوري في معارض مرحلته الأخيرة، لجهة الخطوط والاحتدامات اللونية في صوغ عالم حلمي وأسطوري ينهل من الذاكرة في المقام الأول، ذاكرة الحنين واستعادة العيش. بعيداً عن محترفه الباريسي، الطبيعة الصامتة هنا، ما هي إلا استكمال لعناصر معماريّة من الحارة الشامية التي أعاد صوغها ككتلة متجانسة. هذه المرة، ينشغل بموجودات الداخل، ويمزجها بإشارات روحانية تلغي بعدها السكوني والواقعي. إذ تتجاور دائرية الثمرة مع انسيابية المئذنة، في حوار شجي، ووجد صوفي، بين الخارج والداخل. وقد يتمازجان على سطح نغمي واحد.
إطاحة البعد التزييني في أعمال هذا الفنّان السوري، تأتي من صلب اشتغالاته في إنشاء لوحة حداثية، تختصر المسافة بين مقترحات بول سيزان ــــ بعد إقصاء هندستها الصارمة ــــ من جهة، ومعطيات المحترف الشرقي النوراني والحسي في اشتباكهما الأبدي والملتبس، من ضفة ثانية. تفاحة سيزان تقابلها رمّانة زرقاء مشروخة، أو كمثرى تأخذ شكلاً أنثوياً في مهبّ اللذة، ومداعبات حسيّة، تمنحها الخطوط والألوان الحارّة بعدها الإيروسي و«الأفروديتي» والغريزي. كلّ هذا، في مقاربات تشكّلها الذاكرة الشخصية أولاً، ما يفسح المجال لمفردات اللوحة التنزه على هواها في الفراغ، تبعاً لمرجعيات الاشتهاء والتذكر والكثافة. الصمت والسكون والحيادية، هذه العناصر التي تسم الطبيعة الميتة، لا مكان لها في أعمال عرابي. على العكس تماماً، هناك مسعى محتدم لانطاقها وأنسنتها وهتك أسرارها... وربما إعادة سردها من موقع آدميتها، لتخليصها من وظائفها الاستخدامية، والقذف بها إلى تخوم التجريب. كأنّ الموضوع مجرد ذريعة أوليّة لاحتدام اللون والخط. بعيداً عن الأسلبة المعتادة في هذا السياق. إذ تتمحور تجارب مشابهة حول المركز كبؤرة للضوء، فيما تتفتت البؤرة هنا لتتوزع على مساحة اللوحة برؤية شاقولية تتيح الحركة الحرّة للخطوط، كما تطيح، عن قصد، الزخرفة اللونية، لتنشغل بالبعد التعبيري للموجودات.
في لوحته «أزهار تحت المطر» مثلاً، يحيلنا أسعد عرابي إلى مجاز تشكيلي، وشجن عاطفي وحميمي في استعادة لحظة غياب. هناك مَن أتى ووضع هذه الأزهار على الدرج ومضى. الباب مغلق، ورائحة الزهور تعبق في المكان، إلى حدود وجودها. فيما تخفت الألوان، وربما الرائحة، بعد هذه المسافة مباشرةً. هكذا، تتخلص لوحة الطبيعة الصامتة من أكسسواراتها، لتلتفت إلى الهامش والظلال، وتنسج علاقة مغايرة في تكويناتها وأبعادها البنائية، ونوطتها الموسيقية الباهرة.
هل ما يرسمه أسعد عرابي في معرضه الجديد، انعطافة في ممارساته التشكيلية التي تمحورت طويلاً حول دمشق وذاكرتها المتحوّلة؟ ينفي ذلك بشدة، ويعتبر هذه الالتفاتة إلى الطبيعة الصامتة نوعاً من التحريض على خلخلة الثوابت. «هذه المجموعة استمرار للتراكم الذوقي، على مستوى الحساسية الأدائية، باستعمال المفاتيح الطوبوغرافية نفسها، في خصائص علاقة الفراغ بالامتلاء، وتراكب المساحات وتوزعها في سلّم التكوين العام». الالتفات مجدداً لإحياء لوحة الطبيعة الصامتة، يتخذ هذه المرة مجرىً آخر، في المحترف التشكيلي العربي، ليرمّم عن دراية، ثغرةً جماليةً ببلاغة مختلفة، تطيح الموروث التزييني، والتأثيري الواقعي، ببعديه الصالوني والشعبوي. إذ تتجاور مغامرة أسعد عرابي هنا ــــ باختلاف الأساليب ــــ مع تجارب خاضها يوسف عبدلكي بالأبيض والأسود، والمصري الراحل حسن سليمان، بمؤثرات سينوغرافية، تزيح عطالتها السكونية جانباً... وإذا بها وليمة للون تحتشد بالصخب، وتتحالف مع اشتهاءات المادة والذاكرة وسيولة الخطوط أو صرامتها التعبيرية.

الفن العربيّ المعاصر: تاريخ لم يُكتب بعدويعرّج هذا الناقد الجريء على موضوعات إشكالية في المحترف التشكيلي العربي، تتعلق بنزاهة التأريخ لهذا المحترف، ومحاولة بعضهم إقصاء تيارات رائدة وطليعية ونفيها لمصلحة حفنة من الفنانين المعولمين. ما يستدعي إعادة توثيق تاريخ الفن العربي المعاصر، بعيداً عن الشللية والنرجسية، وإلا «تحوّل التاريخ إلى دليل هاتف وقاموس إحصائي جديد».
ذاكرة الحداثة إذاً، تستدعي مراجعة شاملة وجدّية في إزاحة الغبار عن أسماء غطاها النسيان، كان لها منجزها اللافت في النهضة التشكيلية العربية. ولعل هذا الجهد هو بوابة لإعادة صوغ «صدمة الحداثة»، واختبار المحترف البصري العربي عن كثب، بعيداً عن التأريخ الانتقائي والعصبية النهضوية التي تنخرط في مشاريع التغريب بحثاً عن الشهرة وقبول الآخر. يقول أسعد عرابي «لعل أفدح الخطايا النقدية التي نقترفها في كل مرّة نهمّ فيها بالتأريخ لأي محترف عربي معاصر، تتمثل في سعينا العبثي في البحث عن نقطة الولادة الموهومة، وكأن هذا المحترف أتى من الخواء والعدم، من دون أن نملك ذاكرة للون والخط».