علا الشافعيبين غزّة التي شاهدناها أخيراً في نشرات الأخبار، وغزّة التي أخبرتني عنها أمي في ما مضى، مسافةٌ شاسعة، يُظهرها الشريط التسجيلي «من لحم ودم» الذي عرض أخيراً في مسرح «روابط» في القاهرة. شريط عزة شعبان، عبارة عن رحلة قصيرة إلى القطاع يُلقي نظرةً على تعقيدات الحصار وعلاقة مصر به. لكنه أيضاً يُظهر صمود أهل القطاع في محاولتهم التحايل على واقعهم المأساوي. تبدأ اللقطات الأولى مع صوت المخرجة «منطقة الحدود بين مصر وغزّة»، ثمّ ندخل للقاء نماذج وشرائح متباينة من المجتمع الغزاوي. هكذا، رصدت المخرجة مصادر الدمار نتيجة القصف الإسرائيلي المتكرر وعدم توافر الحاجات الأساسية والبطالة التي وصلت إلى 80 في المئة. كل تلك المعلومات والصور تُروى على لسان بشر من لحم ودم يعرفون قيمة الحياة. لذلك لم يغب الحس الساخر والموجع في آن عن روايات وفاء وغيرها من الفتيات اللواتي صوّرتهن كاميرا عزة شعبان. تقول وهي تُفرغ البنزين من سيارتها إلى سيارة إحدى صديقاتها: «بدّي البنزين لصاحبتي من غير فلوس»، وتضحك مضيفةً: «مع أن الخليج مليان بنزين بس ببيعوه لنا». وتواصل عزّة مونتاجها الذكي على جملة لفتاة أخرى تقول لها: «صار شعبنا قطيعاً من المتسولين». تحاول شعبان أن تلتزم بحدّ أقصى من الأمانة والموضوعيّة، إذ تعطي الكلمة لمناصرين لـ«حماس» من دون أن تنسى شهادات الناس العاديّين. لكنّها تمنح المقاومين فرصة لشرح وجهة نظرهم، وخيار الجهاد لفلسطين، مع العلم أن ما يرغب به البشر العاديون هو العيش في سلام.
وتلهث كاميرا المخرجة وراء اللحظة، في محاولة للقاء أكبر عدد من النماذج والشرائح الإنسانية، وتطرح تساؤلاتها هنا وهناك كأنّ شبحاً يطاردها نشعر بحضوره الجاثم طوال الوقت. وهناك جملة ترددها من حين إلى آخر في الشريط: «أرغب بأن أواصل رحلتي، لكنني أخشى أن تغلق الحكومة المصرية الحدود في أي لحظة... فلا أستطيع العودة». كأننا بها تلمح إلى الموقف الرسمي المصري، وبعض الإعلام الرسمي الذي يصوّر الغزاويّين «شعباً متسولاً». ويسأل بعضهم: «ليه الكهرباء مانخدهاش من السد العالي؟ مش مصر هتدي لتركيا؟ أعطونا الكهرباء وندفع ثمنها».
ولأنّ عزة شعبان انطلقت من أنّ الغزاويّين شعب من لحم ودم تعرضوا لهجرات ونكسات مستمرة، وجذورهم ممتدة في المجتمع المصري رغم أنف الجميع، فقد رفضت أن تترك غزة وأهلها من دون صورة جميلة: ها هي عروس غزاوية تجلس في «الكوشة» بمفردها، فيما أهلها يرقصون ويضحكون... رغم غياب العريس الذي ترفض سلطات الاحتلال قدومه!
أي وجع ذلك الذي صاغته عزة شعبان خلال رحلتها التي استغرقت خمسة أيام بصحبة الأديب رؤوف مسعد الذي لم يتحدث طوال الفيلم، بل اكتفى بالحضور لتسجيل موقف؟