خفض رسوم البثّ الفضائي هو البدايةزينة منصور
إنشاء مدينة للإنتاج الإعلامي وتحويل لبنان إلى مدينة إعلامية مفتوحة! تلك هي «القنبلة» التي فجّرها وزير الاتصالات اللبناني جبران باسيل في افتتاح «المؤتمر الرابع لعربسات»، الأسبوع الماضي في بيروت. الفرصة سانحة الآن، ينبغي التقاطها من وسائل الإعلام المحلية المهووسة بالتوسع نحو الفضاء العربي، قبل أن تهبَّ رياحٌ سياسية غير مؤاتية قد تودي بها. والغريب في الأمر أنّ الإعلان الذي نسمعه للمرّة الثانية خلال عقد من الزمن، جاء خافتاً بعض الشيء، ولم يحظَ بالاهتمام اللازم، في الإعلام أو على المستوى الحكومي، علماً بأن الجسم الإعلامي معني قبل سواه بموضوع خطير من هذا النوع. ربّما كان الصمت من باب الحرص والمناورة، إذ يجري الهمس في الكواليس عن مشاريع خاصة موازية، أو لعلّه تعبير عن تشكيك في مقدرة المشروع على بلوغ حيّز التنفيذ، بدليل المصير الذي لاقاه حين طرح للمرّة الأولى في عهد الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
وسواء جاء هذا الإعلان متقدّماً على ما يجري من حراك داخل الجسم الإعلامي اللبناني أو متأخراً بعدما قامت مدن للإنتاج في العالم العربي وأسّست مراكز إنتاجية مهمّة في المنطقة، إلا أنَّ الحدثَ بذاته يعيدُ إلى الواجهة مسألة قدرات لبنان التنافسية مع الدول المجاورة في مجال الإعلام. فماذا وراء الإعلان المفاجئ عن خطة إنشاء هذه المدينة الإعلامية المنتظرة منذ سنوات؟ هل هناك رغبة حكوميّة في لفت النظر إلى دخول لبنان عصر المدن الإعلامية الكبرى، ليجاري نمو الفضائيات وتطوّرها في دبيّ والقاهرة، مقرّ أكبر مدينتين للإنتاج في الشرق الأوسط؟ إن إطلاق هذا الإعلان في مؤتمر Arab Sat مثّل رسالةً مباشرةً للإعلام العربي الذي يتّخذ من دُبي والقاهرة مقرّاً له بتحويل نظرهِ إلى بيروت الغنيّة بالطاقات الإعلاميَّة والبشريَّة. ومن جهة أخرى: هل هناك قناعة رسميّة بضرورة بناء مشروع إعلامي كبير ذي مرام اقتصاديّة بعيدة النظر، يُكرّس دور لبنان في صناعةِ الإنتاج التلفزيونيّ والسينمائيّ بعد تخبّط دامَ سنوات، وانعدام توافر الخطّة الفعليّة والتمويل لتنفيذِه.
لماذا أعرضت وسائل الإعلام اللبنانيّة عن إعلان تحويلِ بيروت إلى مدينة إعلاميّة مفتوحة؟ لماذا لم يتساءل أحد عن الأسس التي يقوم عليها المشروع؟ مصدر مقرّب من الوزير باسيل أكد لنا «أنّ الوزارة تعمل على إنشاء مدينة إعلامية حديثة Media City مجهَّزة بالمعدَّات التقنيّة الحديثة، لناحية الصحون المرسلة للأقمار الاصطناعيَّة». وأضاف المصدر أنّ «وزارة الاتصالات أعدّت لهذه الغاية مشروع مرسوم لخفض الرسوم المرتبطة بالبثّ الفضائي، وهو ما يُعرف بالـBouquet المتكاملة عبر «عربسات»، إذ حُدِّد الرسم بـ14 ألف دولار، وهو الأرخص بين الدول العربية». وفي الإطار نفسه، «تعمل الوزارة على ربط مراكز الإنتاج التلفزيوني والبث الفضائي والاستوديوات التلفزيونية الخاصة بمحطّة «جورة البلوط» (مركز البث الفضائي في لبنان عبر الأقمار الاصطناعية)، عبر شبكة الألياف البصرية، بحيث يُتاح لها بثّ إنتاجِها عبر الأقمار الاصطناعيّة». ويذكّر المصدر في وزارة الاتصالات بأن المدينة «ستكون قادرةً على جذب الاستثمارات الخارجية في ميدان البثّ الفضائي، وجذب المؤسسات الكبرى للعمل في لبنان، فضلاً عن خلق فرص العمل بالآلاف». وتبقى ميزة أيّ مدينة إنتاجيّة بأنها منطقة حُرَّة تمتاز بالإعفاءات الضريبيّة والجمركيّة بهدف تسهيل دخول المعدات الإنتاجيّة وخروجها لجذب حركة الإنتاج.
إلا أنّ «الحريّة» لا تعني القفز فوق القوانين التي تنظّم الإعلام في الدولة المضيفة للمدينة الإعلاميّة، ولا تعني أنّ الإعلام خارج هذه المُدن ليس حراً. كما أن بلداً مثل لبنان محكوم للأسف بانقساماته وخلافاته السياسيّة، هل يتمكن من جمع القنوات اللبنانية في بقعةٍ جغرافيّةٍ واحدة، جنباً إلى جنب مع مقارّ الفضائيات العربيّة، ما يعيدُ إلى البلد وهجَهُ الإعلامي كمنطلقٍ لحرية التعبير في المنطقة؟ وهناك سؤال آخر: إلى أي مدى سيستفيد لبنان من التجربتين العربيتين القائمتين ـــــ وقد أقيمتا، في دبي والقاهرة، على طرازِ مُدنِ الإنتاج العالمية ـــــ في مجال نقل الخبرات المعماريّة والإداريّة والإنتاجيّة والتقنيّة؟
والقائمة تطول: أين ستقوم الـMedia City اللبنانية؟ وكم ستبلغ مساحتُها؟ وما هو عددُ الاستوديوات المفترض تشييدها؟ وما هي كلفتُها وكم سيستغرق بناؤُها؟ والأهم، هل الحكومة قادرة على تمويل مشروع استثماري مماثل يحتاج إلى رصد ميزانية تصل إلى 100 مليون دولار، وتتطلب تعاون شركات أجنبية متخصّصة في بناء مدن مماثلة؟ أسئلة كثيرة برسم المستقبل، على أمل ألا نكون أمام مشروع مُجهض آخر...


zoom

هل هناك مكان للجميع؟الإعلان اللبناني يتخذ صفة رسميّة لصدوره عن جهة حكوميّة، إلا أنّه لم يكتمل لعدم وضوح خطوط الاستثمار والمزايا التي ستُقدمها الـMedia City للمستثمرين، وغياب التعليق الحكومي، وردود فعل الإعلام المحلي الذي اعتمد مبدأ الاكتفاء الذاتي لناحية توفير الخدمات الإنتاجيّة، من دون اللجوء إلى مدنٍ إنتاجيّة متخصِّصة. وبالنظر إلى التجربتين السابقتين في دبيّ والقاهرة، نجد أنّهما مثّلتا مساحة تحريرية مرنة للفضائيات، أسهمت في تنامي العصر الفضائي العربي وازدهاره. واللافت أنّ تصميم دول عربيّة مجاورة للبنان ـــــ كسوريا والأردن ـــــ على البدء ببناء مدن إنتاج إعلاميّة، يؤكد الأهميّة الاستراتيجيّة لتعزيز هذا القطاع الحيوي كأفق تسويقي ومحرّك اقتصادي. نشير هنا إلى اتفاق عُقِدَ منذُ سنوات بين وزارة الإعلام السوريّة ومدينة الإنتاج المصرية بهدف الاستعانة بخبرات هذه الأخيرة لبناء «مدينة» دمشق. ذلك أن المدن الإنتاجيّة قد تأتي متكاملة، بين لبنان ومصر وسوريا والخليج، فالإنتاج التلفزيوني اللبناني والمصري والسوري والخليجي مطلوب بقوّة كلٌ حسب مواصفاتِه التفاضليَّة... لكن هل تتسع السوق للجميع؟