انتقمت من سنوات الشعر وعانقت «القارئ الحقيقي»حسين بن حمزة
من باريس كانت تصلنا قصائدها وكتاباتها في صحفٍ ومجلات عربية مهاجرة. نشرت أربع مجموعات شعرية، وواحدة قصصية، ثم كتاباً ضمّ حوارات أجرتها مع عددٍ من كتَّابنا البارزين، لكن كل هذا لم يترك لدى سلوى النعيمي إحساساً بوجود قارئ حقيقي لما تكتبه. نحن أيضاً، خصوصاً أبناء جيلها ومَن تلاهم في سوريا، لم نفسح لاسمها مكاناً صريحاً بيننا. كنَّا نعرف أنّها موجودة، لكنه ذلك الوجود البعيد والخافت الذي لا يضطرُّنا إلى حفاوةٍ مُلزمة. لِمَ نفعل هذا، بينما هي نفسها، للأسباب ذاتها على الأرجح، لم تشعر بأن ثمة دَيْناً لها عندنا أو حيِّزاً شاغراً يخصُّها؟
ظل هذا التباعد أو التناسي ـــ المتبادل ــــ قائماً حتى أصدرت كتابها ــــ القنبلة «برهان العسل» (2007). بعضٌ صنَّفه رواية، والبعض الآخر لم يفعل. لكن هذا لم يمنع الكتاب ــــ الرواية من أن يلقى رواجاً يمكن وصفه بالقياسي، مقارنةً بما كانت أشعارها تلقاه من صدى غير واضح المعالم. في أقل من عامين، صدر «برهان العسل» (دار الريّس) في ثلاث طبعات عربية، وتُرجم إلى الفرنسية والإنكليزية والإيطالية، وبِيْعتْ حقوقه في 18 بلداً. ومنتصف الشهر الحالي، يستضيفها «معرض الدار البيضاء للكتاب» في ندوة مفتوحة عن الروايةرغم ذلك، حين نسألها إن كانت شاعرة أو روائية، تفاجئكَ بأنّها لا تزال تطلق الصفة الأولى على نفسها: «أنا شاعرة. هذا ما أعرفه جيداً. روائية، لا أعرف. ثمة مَن كتبوا عن «برهان العسل» وقالوا إنها ليست رواية. أنا لا يعنيني هذا اللقب، كذلك فإنني أساساً لم أقصد كتابة رواية. كتبتُ نصاً مستوحىً من التراث الجنسي العربي. لم أسمِّه رواية. أرسلت المخطوط لرياض الريّس، هو من وضع هذه الصفة على الغلاف. أعرف أنّ مسألة التصنيف باتت وراءنا اليوم، لكني أبقى شاعرة. عندي تصور وموقف ونظر شعري إلى الحياة، وهذا مذكور بوضوح في «برهان العسل» نفسها». ولكن ألا يطمِّعها رواجُ الكتاب روايةً وأرقامُ طبعاته، في إنجاز المزيد من «برهانات» العسل؟ تجيب ضاحكةً: «برهانات نعم... ولكن ليس عسلاً بالضرورة. قد أكتب رواية أو كتاباً نثرياً. أصارحك بأني أعمل فعلاً على كتاب من النوع غير القابل للتصنيف».
داخل النجاح الذي حَظِيَتْ به الرواية، قُيِّض لسلوى النعيمي أن تختبر لأول مرة علاقتها مع قارئ حقيقي: «كانت أول مرة أشعر فيها بوجود ما نسميه «القارئ». في السابق كان مخلوقاً خيالياً. المهم أنّ الكتاب منحني فرصة أن أقول ما كان يدور في ذهني. ما قلته فيه سبق أن قلته في قصائدي. يبدو أنّ الشعر لم يُقرأ كما ينبغي. «برهان العسل» قرئت بكثافة، ولهذا اكتشف القراء والنقاد الشيء الخاص الذي لطالما كنت مواظبة على قوله. كل ما فعلته الرواية هو أنّها جعلت أفكاري الشخصية تصل بطريقة أفضل».
«كل نفسٍ ذائقةٌ العشق» كتبت النعيمي في ديوانها «إنا أعطيناك» (2004). وفي «أجدادي القتلة» (2001)، كتبت: «كلُّ ذئبٍ حلمتُ به/ أكلني» وكتبت أيضاً: «ماذا تنتظر/ عليكَ اللعنة/ كي تُغلقَ فمي/ بقبلة؟». لكنها كتبت في مكان آخر: «لا تصير الحكاية حكايةً إلا عندما نحكيها». هل الشعر تحليقٌ لغوي وصيدُ استعارات، فيما الرواية تجعل الكلام قابلاً للتصديق، لأنه مسبوك في حكاية أو سيرة؟ هل هذا يعني أن الرواية تُصدَّق، والشعر يظل «كلاماً في كلام»؟ تستسيغ سلوى هذا التصور، لكنها لا تعتبره جواباً وحيداً وشافياً. بالنسبة إليها، القضية ليست متعلقة بالتصديق أو عدم التصديق. بعض القراء والنقاد، برأيها، خلقوا هذه الإشكالية لأنّهم بحثوا عن أسباب نجاح الرواية خارج كونها رواية مكتفية بنفسها، أي موضوعها الجنسي.
«الجنس غالباً ما يجعل لأي نص أدبي استطالات وزوائد»، تقول صاحبة «ذهب الذين أحبهم» (1999)، وتضيف: «أظن أنّ الرواية وجدت قارئها بسبب سلاستها نصاً، وصراحة بطلتها ساردةً للأحداث، لا بسبب موضوعها. لو كان القارئ يبحث عن الجنس فقط لوجد ضالته في روايات تحتوي على مشهديات جنسية أكثر بكثير من كتابي». لكنّه هنا جنس عربي، وهذا يمثل إغواءً خاصاً للقارئ! توافق على هذا التوصيف، لكنها تراه من زاوية مختلفة: «أظن أنّ هذا أحد الأسباب الفعلية لنجاح الرواية. لا تنسَ أن الجنس هو موضوع الرواية بأكملها. إنها نص كامل عن الجنس، وليست نصاً يحتوي على مشاهد جنسية. الراوية امرأة عربية تعيش في قلب الثقافة الأوروبية، وتربط حريتها الجنسية بتراثها العربي والإسلامي. ثمة من كتب «الرواية صالحتنا مع أجسادنا». أظن أن هذه الثيمة وجدت صداها لدى القارئ العربي والأجنبي أيضاً. لم يكن هدفي كتابة رواية فضائحية أو مبتذلة. والقارئ نفسه لا يخرج بهذا الانطباع. الجنس هنا هو جنس فَرِحْ وفيه لذة غير مصحوبة بالإثم».
نسألها أخيراً، إن كانت مستاءة بطريقة ما من الحفاوة التي استُقبلت بها روايتها بعد كل ذاك الطرق الشعري المتكرر على باب قارئ «وهمي»، فتضحك طويلاً: «بالعكس. كانت الرواية انتقاماً من كل سنوات الشعر».