تجربة على درجة من التفرّد، تنطوي عليها باكورة هذا الفنّان الفلسطيني الذي يستفيد من الطرب الشرقي، لاعباً على التواتر بين الرقّة والقسوة

أحمد الزعتري
ما يميّز ذائقتنا الموسيقيّة الشرقيّة، شعور الطرب الذي يمنحنا إياه ربع النوتة أو ربع التون. في هذا السرّ يكمن عنفوان الشرق: رقّته وقسوته في الوقت عينه. أمّا في الموسيقى الغربيّة، فلا يمكن إيجاد مصطلح يوازي «الطرب». وربما كان أقرب مصطلح إليه هو Rhapsody. في أسطوانته الأولى «مرآة»، يستغلّ الفلسطينيّ تامر أبو غزالة (1986) مراحل التطريب الشرقيّة هذه، كي يحوّلها إلى حالة مستمرة من العنفوان الرقيق والقاسي مرة أخرى. يمكن ردّ الحالة الخاصة لموسيقى أبو غزالة إلى المدرسة «الجبرانيّة» (خالد وكاميليا جبران).
في التاسعة من عمره، بدأ بتلقّي دروس في العود قبل أن يلتحق بـ«المعهد الوطني للموسيقى» في رام الله (معهد إدوارد سعيد للموسيقى الآن)، ليتعلّم على يد عازف العود والبزق الفلسطيني خالد جبران الذي سيعزف معه في أسطوانة «مزامير» (2005) اللافتة، وأخيراً في «مركز الأرموي للموسيقى». بعد كل ذلك الزخم في عدد قليل من السنوات، قد لا يكون إصدار أسطوانة في الثانية والعشرين ناتجاً إلا من نضج فنيّ وأسلوب موسيقي وغنائي واضحين.
ما يلفت الانتباه أوّلاً على مدى سبع أغنيات ومقطوعات موسيقيّة الحالة الخاصة التي تكونّها ثلاثة عناصر: الأولى تأثير مدرسة خالد جبران في التوزيع المتوتّر والصعب، التي لن يشفى منها أبو غزالة قريباً على الأقل. هكذا يمثّل البزق وتوزيعه العنصر الأساسي للّحن القائم أساساً على الارتجال (عود وعود باص، بزق وبزق باص ومشاركات محدودة للبيانو والكمان والتشيللو)، إلى درجة تبدو معها قصيدة قيس ابن الملوّح ذات طابع حداثي من ناحية الموسيقى. إذ تمثّل القصيدة العموديّة غالباً تحديّاً للموسيقي إن أراد تلحينها، فيجب أن يأخذ في الاعتبار الوزن الشعري أولاً، القافية، ورصانة أجواء الكلمات. أما أبو غزالة فيتجاوز هذه التحدّيات ويتعامل مع القصيدة كنصّ نثريّ، مقطِّعاً الوزن بطريقة مغايرة، محتفظاً بغنائية القصيدة، ومضيفاً إليها حيويّة، لكن مضيّعاً في الوقت نفسه شفافية قد يطغى عليها قوة صوته أحياناً.
العنصر الثاني هو القصائد التي يمكن وصفها بالسورياليّة، إذ تضجّ بالصور الغرائبيّة والسخرية، شيء مختلف عن كل ما اعتدنا سماعه في أغنية، مقترباً من تجربة كاميليا جبران باختيار الكلمات (بول شاوول، فاضل العزّاوي...). الصعوبة هنا تكمن في منح الكلمات حيويّة لا تقترحها عندما تتسمّر على الورق. وإن استثنينا ابن الملوّح وقصيدة حسين البرغوثي الفُصحى التي لا تخرج عن السورياليّة، وقصيدة لسلوى جرّاح، فإن باقي كلمات الأغاني بالعاميّة الفلسطينيّة: «مشمس كان هداك اليوم/ مع إنو الشمس شربت كاس/ ونسيت تطلع ونسيت تنزل/ ليلة مبارح جالي نوم/ مع إنو الشمس والقلقاس...» (تخبُّط).
صوت أبو غزالة هو العنصر الثالث، والأكثر مفاجأة في الأسطوانة. أجمل ما في الصوت غير الخارق أنّه يعرف حدوده، فلا مغامرات للصعود بالمقام أو النزول به، محتفظاً بمساحة غنيّة في المنتصف ومعمّماً تلك المساحة على الأغنيات. عدا مشاركات للفلسطينيّ ربيع جبران في «الشباك» و«سكوت». ولا يمكن هنا إلا الإشارة، مرةً أخرى، إلى اقتراب الأداء الصوتي من تجربة كاميليا جبران في العنفوان والقوة والابتعاد عن الرتابة.
لكن قد لا يبدو مُنصِفاً إلصاق تجربة أبو غزالة، الغنيّة والمكتملة والمغايرة في كل شيء، بتجارب سابقة... إلا أنّ «الخلطة» الناتجة من انصهار كل العناصر المذكورة، تستحيل مادة غنيّة تُجبل فيها تجربة حيّة وحيويّة على درجة من الخصوصيّة، وربّما تتجاوز مراجعها بحسّ عصريّ لتحديث الموسيقى العربية في مواجهة الرتابة السائدة.